افتتح المركز الثقافي المغربي فى نواكشوط مساء اليوم الأربعاء 24 اكتوبر 2018 أنشطته المبرمجة برسم السنة الثقافية 2018 - 2019 وذلك بمحاضرة قيمة تحت عنوان "البعد الروحي فى العلاقات المغربية الموريتانية- الشناقطة والمغاربة الارتباطات الموحية والروابط الروحية."
.
المحاضرة ألقاها الدكتور محمذن ولد المحبوبي،رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بالمعهد العالى للدراسات والبحوث الإسلامية وقدم لها مدير المركز السيد سعيد الجوهري بكلمة قيمة رحب فى مستهلها بالحضور ، معلنا بدء أنشطة المركز الثقافية، طالبا من الجميع "المساهمة فى إثراء وإغناء أنشطة المركز من خلال مقترحاتهم ومساهماتهم القمية مما يسهم فى الرفع من وتيرة المسيرة الثقافية بالبلد ويقوى صلات التقارب بين المملكة المغربية وجمهورية موريتانيا الإسلامية الشقيقة".
الدكتور ولد المحبوبي استهل محاضرته بالحديث عن الارتباطات الصوفية التى تجمع الشناقطة بإخوتهم المغاربة مبرزا أن الطرق الصوفية الثلاث الأكثر انتشارا فى موريتانيا هي الشاذلية والقادرية والتجانية وكلها جاءت عبر المغرب كما أشار إلى تأثر الشناقطة بأشياخ التصوف فى المغرب وكيف انعكس ذلك فى الأسانيد الصوفية والمقررات الدراسية، مستشهدا بأسماء علماء وكتب دون أن ينسى التأثير السلوكي.
وفى المقابل تحدث المحاضر عن دور العلماء الشناقطة فى بلاد المغرب الأقصى وعن المكانة التى تبوءوا هناك حيث أخذ عنهم بعض السلاطين وكبار العلماء وأشادوا بهم وبعلمهم شعرا ونثرا مستشهدا ببعض القصائد الشعرية والكتابات التى سطرها أمراء وعلماء فى مدح بعض العلماء الشناقطة. كما تحدث عن دور المؤلفات الشنقيطية وكيف أسهمت فى نشر العلم وتنوير الفكر فى بلاد المغرب الأقصى.
المحاضر اختتم عرضه بالقول إن هذه الروابط العلمية والروحية ما زالت مستمرة بفضل استقبال الجامعات المغربية للطلبة الموريتانيين فى جميع التخصصات ودور المركز الثقافي المغربي فى تنشيط وإثراء الساحة الثقافية فى نواكشوط، وكذلك مساهمة العلماء الموريتانيين فى الدروس الحسنية بالرباط وانفتاح المحاظر الموريتانية على الطلبة المغاربة، إضافة إلى تبادل الزيارات التى يقوم بها علماء وأساتذة كل طرف للآخر.
المحاضرة أشفعت بنقاش مثمر من طرف النخبة الثقافية والفكرية والأدبية التى حضرت بشكل متميز.
وهذا نص المحاضرة :
المغاربة والشناقطة: الاغتباطات الموحية والرباطات الروحية
(وقفات مع جهود أئمة التصوف والسلوك في تربية النفوس وإنارة الحلوك)
بقلم: د. محمذن بن أحمد بن المحبوبي
رئيس شعبة اللغة العربية وآدابها
بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية
نواكشوط – موريتانيا
إنه لمن نافلة القول التذكير بأن ثمة جملة من الروابط الثقافية المتميزة، جمعت بين بلاد شنقيط وبين مناطق المغرب الأقصى، وسنركز خلال هذا الجهد على الجانب الروحي منها، ذلك الجانب المتعلق بتطهير القلوب وتزكية النفوس. وقد اخترنا لهذا الموضوع عنوان: "المغاربة والشناقطة: الاغتباطات الموحية والرباطات الروحية".
فمن المعروف أن الحواضر المغربية كانت تشع من نورها المعرفي على جاراتها المغاربية، مؤثرة في التربية والسلوك وفي المناهج والمقررات، فأعقبت بذلك في نفوس أبناء المنطقة تربية إسلامية رفيعة، وأبقت من بصماتها على تقاليد التصوف وأساليب السلوك وتطهير الأعراق، فماذا عن هذه الرابطات الروحية؟، وكيف تم التبادل الصوفي بين المنطقتين؟ وما أبرز البصمات السلوكية التي انطبعت بها حياة النخب والعوام؟ وكيف ترددت جهود أئمة التصوف من الري إلى الأوام؟
ذلك ما يسعى هذا الجهد إلى الإجابة عنه من خلال المحاور الآتية:
أولا الموضوع: إنارة وتأسيس
وخلال هذا المحور سنعرض لمسألتين أولاهما تعنى باستنطاق العنوان وإبراز دلالاته، وثانيتهما تهتم بتأصيل الموضوع والتوقف مع أبرز محطاته.
أ- العنوان محاورة وتحليل.
يقوم عنوان هذا الجهد على ثلاثة تركيبات نحوية أولها عطفي قام مقام المبتدأ وثانيهما نعتي جاء خبرا عن المبتدأ وثالثها نعتي جاء معطوفا على الخبر. فالتركيب الأول: "المغاربة والشناقطة" يقوم على جمعين مباركين أولهما "المغاربة" جمع مغربي نسبة إلى المملكة المغربية، وثانيهما "الشناقطة" نسبة إلى بلاد شنقيط التي كانت تطلق قديما على المجال الجغرافي المعروف اليوم بموريتانيا.
أما التركيب الثاني: فهو مفتوح بـ"اغتباطات" وهي جمع اغتباط مصدر اغتبط به اغتباطا إذا فرح به، والغبطة أن يتمنى المرء مثل ما للمغبوط من نعمة من غير أن يتمنى زوالها عنه([1]). و"الموحية" أي ذات الدلالة العميقة.
أما التركيب الثالث فهو مفتتح بـ" الرباطات" جمع رباط وهو ما يربط به، والمقصود هنا الصلاة الوثيقة والأواصر الحميمة. وقد وصفت هذه الرباطات بلفظ "الروحية" نسبة إلى الروح وهي ما به حياة الانسان ويذكر ويؤنث. والروحية في الفلسفة تقابل المادية، وتقوم على إثبات الروح وسموها على المادة وتفسر في ضوء ذلك الكون والمعرفة والسلوك، والمقصود من العنوان جملة هو الكشف عن الصلات الثقافية والعلاقات المعرفية ذات الصلة بمدارس التصوف والسلوك خاصة.
ب- الموضوع مقاربة وتأصيل.
وفي هذا الجانب نود لو نتناول مسألتين أولاهما تستعرض جانبا من تنويه الشناقطة بإخوانهم المغاربة مستحضرة جملة من ثنائهم المتميز على ما للمغاربة من جهد علمي وسعي مشكور سواء تعلق الأمر بتقدير أرباب السلطة والحكم أو اتصل بتكريم أئمة المعرفة والعلم. أما ثانية المسائل فإنها تعرض لاحتفاء المغاربة بالجهود الشنقيطية، وتقديمهم العون والمساعدة لنظرائهم الشناقطة فقد كانوا لهم عونا ظهيرا في إكمال مناسك الحج واقتناء الكتب والمؤلفات، واكتساب المعارف والمعلومات.
أ- الحضور المغربي في الذاكرة الشنقيطية
لقد كان للمغرب في ذاكرة الشناقطة حضور كبير، وذلك لما امتاز به من موقع استراتيجي وعمق تاريخي، وتميز معرفي فهو ممر لقوافل الحجيج، ومعبر لهجرات العديد من المجموعات البشرية القاطنة في بلاد شنقيط كما هو محط أنظار الطلبة والدارسين، فحواضر المغرب الأقصى تعد بحق حواضن العلم والتثقيف ومراكز التربية وتطهير القلوب، لذلك فإنها لبثت فترة تمد محيطها بنافع الحكمة ورفيع المقرر ومأثور التصوف، فبقيت بصماتها بارزة على مستوى الدرس والتأليف عالقة بالذاكرة في جانب التربية والسلوك.
وقد عبر الشناقطة عن ذلك الامتداد العلمي والتأثير الصوفي أروع تعبير فسطروا جملة من الشواهد والشهادات جاءت على شكل إنشادات شعرية وإشادات نثرية، نعرض لها في ما يأتي:
1- امتداح أولي السلطة والحكم:
وفي هذا المستوى نقف يسيرا مع نصوص لأربعة من شعراء الشناقطة سعوا جهدهم إلى امتداح سعي المغاربة وتزكية أعمالهم والدعوة لهم بالزيادة في أعمارهم.
ولعل من أوائل هذه النصوص تلك الدالية التي امتدح بها سيدي عبد الله بن محم المعروف بابن زاركة ت1144هـ البيت العلوي مصرحا أنه تحمل في الرحلة نحوه المشاق واجتاز المهامه والصحاري رغبة في الوصول إلى ذلك الجناب الشريف، ذي الفضل والمكانة، فبالوصول إلى أكنافه تزول الهموم والأحزان وبالمقام بحضرته "السنية الحسنية" يطمئن القلب ويأمن الروع، وهنا يحسن التخلص إلى موضوعه، معددا مآثر الأمير محمد العالم، مشيرا إلى تأصل الكرم والفضل في أورمته، حيث نال صاحبنا منه ما ألف من أبيه أمير المؤمنين مولاي اسماعيل، وذلك ما حمله على القطع بأن الممدوح (محمد العالم) ووالده يشكلان سلما من الفضل والمجد متكاملا عماده إقامة الدين وإدارة أمور السلطة والملك بحكمة يقول([2]):
دأبتُ على السير المبرح والسرى |
|
أجوب الفيافي فدفدا بعد فدفد |
ويتعزز هذا النموذج المدحي بسينية للشاعر محمدو بن محمدي العلوي ت1372هـ، امتدح خلالها السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام مؤكدا لوفده حصول المراد بالبلوغ إلى كنف هذا السلطان الكريم، الذي ينحصر همه في إتحاف القادم وإعانة الضعيف، وكسوة العاري وإطعام المسكين، وهو من أرومة طيبة، فهو ابن بضعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسعيه متواصل في إصلاح أمور المسلمين وتعمير ما اندرس من أمور الدين، يقول([3]):
إني كفيل بنيل السؤل لي ولكم |
|
إما بمراكش المحروس أو فاس
|
ونقف بعد ذلك مع لامية لمحمد يحي بن أبوه الموسوي ت1349هـ يمتدح فيها سعي السلطان مولاي عبد الحفيظ، وقد استهلها بمقدمة غزلية وجه إثرها تحية عطرة إلى الممدوح متحدثا عن سعيه الجاد إلى نشر العلوم الشرعية مؤكدا أنه أقام ركن الدين،وشمر عن ساعد، يقول([4]):
لعمرك ما إن لي بجمل ووصلها |
|
وسلمى وجارات لها أبدا شغل |
ألكني إليهم من بعيد تحية |
|
هي المجد ما حيي بها أحد قبل |
ومما يندرج في هذا السياق تلك الميمية التي امتدح بها محمد الأمين بن أحمدو المباركي (1275هـ) السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام، وقد استهلها بمقدمة غزلية رائعة تدعوإلى عصيان الهوى، وتدفع إلى الارتحال، مقوية من عزم الشاعر ليلتمس من محبوبته "زبيدة" المعذرة، معربا لها عن عدم قدرته على مصارعة الغرام فودعها محسنا التخلص إلى الغرض الأساسي، منطلقا إلى ممدوحه عبد الرحمن بن هشام ومنوها بخصاله، منتهيا إلى أن جنابه مأدبة تكريم وساحة إجلال وتقدير، يقول([5]):
طارف الهم أم تليد الغرام |
|
وضع السهد في محل المنام |
تيد عنى زبيد بعض الملام |
|
ما لمثلي على الهوى من مقام |
2- امتداح أولي المعرفة والعلم:
وفي هذا المستوى نشير إلى أن الشناقطة نظروا إلى إخوانهم المغاربة نظرة إعجاب وتقدير، فوجهوا إليهم الثناء العطر باعتبارهم أساتذة العلم وأئمة التصوف، وعدوهم المثل الأعلى، والنموذج المحتذى، لذلك نقرأ في مرثية المختار بن حامدن الديماني ت 1414هـ لمحمد سالم بن ألما اليدالي ت 1383هـ ما يدعم هذا التوجه ويعززه، إذ أكد أن هذا المرابط نال منزلة من العلم عالية هيأته لأن ينافس أقطاب العلم وأئمة التصوف، من المغاربة وغيرهم، يقول([6]):
كان الجنيد وكان الأصبحي ومن |
|
قد اهتدى بهداه الأشعريونا |
أكفاءه وابن رشد إن نزلت به |
|
وحبر طرطوشة وحبر مازونا |
إن لم يكن فوقهم أو فوق ذاك فما |
|
كان الفقيه محمد سالم دونا |
بله ابن حمدون بل بله ابن عاشره |
|
بله الرهوني بله الشيخ كنونا |
لا شك في أنه في العلم بذهم |
|
بما يبذ المصلين المجلونا |
وراجح هو إن قمنا نعادله |
|
بمثلهم مع أي كان موزونا |
كما نقرأ بيتين للولي محمد العاقل (آكل) بن محمد بن أحمد للفاللي ت 1413هـ يمتدح ضمنهما شيخه محمذن باب بن دادا مصرحا أنه يشبه في هديه وعلمه الحسن اليوسي، الذي يعد في ذلك المثل الأعلى. يقول([7]):
محمد شيخنا حقا وقدوتنا |
|
والحال منشد والله يبقيه |
(من فاته الحسن البصري يصحبه |
|
فليات الحسن اليوسي يكفيه) |
ومما يندرج في هذا السياق تلك الضادية الرائعة التي سطر أحمدو بمب بن أحمد بن الأمين في رثاء العلامة زين بن اجمد، حيث نوه ضمنها بالقاضي عياض وعده مضرب المثل في العلم وعنوان التميز والحفظ، يقول:
أرى الأيام تقذف بالعراض |
|
وتنتقر النفائس من قراض |
ب- الحضور الشنقيطي في الذاكرة المغربية:
إن القارئ للتاريخ الثقافي بين المغرب وبلاد شنقيط يدرك جليا أن للشناقطة حضورا متميزا في الذاكرة المغربية، وذلك ما سنعرض له في مستويين:
1- التنويهات الشعرية:
لقد توطدت الصلات الثقافية بين الشناقطة والمغاربة وتجلى جانب من ذلك على مستوى الإنشاءات الشعرية، ومن نماذج ذلك تلك النصوص المتميزة التي وجهها الأمير محمد العالم إلى زميله سيدي عبد الله بن محم المعروف ابن رازكة العلوي فقد توطدت العشرة المعرفية بين الرجلين وذلك ما دعا الأمير إلى أن يسجل ترحيبه بهذا العلوي شعرا، في عدة مناسبات. ففي المرة الأولى أكد أن مكناسة عاصمة الملك يومئذ ازدهت فرحا بقدوم الوفد الشنقيطي الذي يضم القاضي عبد الله بن رازكه والأمير اعلي شنظوره([8])، صفوة مغفر وذؤابة بني حسان، يقول([9]):
مكناسة الزيتون فخرا أصبحت |
|
تزهو وترفل في ملاء أخضر |
وفي مناسبة أخرى ينظم محمد العالم بيتين آخرين يكشف عبرهما عن تحقق مراده واكتمال مقصده بمجيء هذا العلوي إليه، متحسرا على تأثير الشمس في وجهه مقنعا المخاطبين ببهائه؛ مصرحا أنه قمر منير، يقول([10]):
جاء الحبيب الذي نرجوه من بعد |
|
والشمس في وجهه قد أثرت أثرا |
وفي نموذج ثالث نرى الأمير يعجب بشعر الرجل مؤكدا أن له منزلة من البيان متميزة؛ إذ تجاوز شعره بيان أهل البلاغة وتعالى فوق سحر السحرة، وذلك ما حمل الأمير على الإفصاح عن جودة الشعر الشنقيطي وتميزه وقصور الأشعار الآخرين عن رتبته مهما تفننوا في البوح أو تنوعوا في أساليب القول، يقول([11]):
أتانا من قرى شنقيط شعر |
|
تعالى فوق سحر الساحرينا |
وتتعزز هذه الإشادات الشعرية بنص أبدعه العلامة الشاعر د. عبد الهادي احميتو ممتدحا سعي الفقيه محمد يحي الولاتي ومنوها بالمستوى الثقافي المتميز للولاتيين مضفيا على الفقيه صفات الأستذة والسيادة والإمامة مؤكدا في الوقت نفسه تمكنه من ناصية العلوم وطول نفسه في التأليف إذ غطت مؤلفاته حقول علوم القرآن والفقه والحديث والنوازل واللغة والنحو والبلاغة وغيرها، يقول([12]):
من وحي ذكرى العالم الوالاتي |
|
أهدي تحياتي لخير وعاة |
طلاب هذا الشأن من وصلوا علا |
|
ماضي البلاد بحاضر وبآت |
واذكر ولاتة في معاقل عزها |
|
وعميدها المتصدر الوالاتي |
أستاذ من حمل اليراع بأفقها |
|
وإمامها الكشاف للغمرات |
من ساد في سودانها وتخومها |
|
بمتونه وفنونه النضرات |
وممهد سبل الوصول لسالك |
|
لأصول مذهب مالك العطرات |
وعلا "مراقي للسعود" و"مرتقى" |
|
عصم العقول بها من الشبهات |
ولرب نازلة أجال جياده |
|
فيها فأحرز فائز القصبات |
ومناظرات في المسائل خاضها |
|
فسبى العقول وفل كل شباة |
|