في زمنٍ تتسارع فيه التحولات، وتزداد فيه هشاشة البُنى الاجتماعية والسياسية، يصبح الحفاظ على التماسك الوطني أكثر من مجرد شعار؛ بل هو شرط وجود. "نختلف نعم، نتقدم نعم، نرفع الصوت نعم"؛ هكذا عبّر نقيب المحامين الأستاذ بونه ولد الحسن عن جوهر التعددية التي لا تُنكر التباين، بل تحتضنه في إطار من المسؤولية. غير أن جملة تالية، جاءت لتُعمِّق الرؤية وتُضفي عليها بعدًا وجوديًّا: "لكن يظل ظل الودّ هو الدفء الذي يحمينا من لهيب الانقسام في ظل تدهور دول أعظم منا."
في هذا المقال، نحاول مقاربة هذا المعنى في ضوء تحديات الاجتماع السياسي المعاصر، وإبراز أهمية ما يمكن تسميته بـ"الحد الأدنى الوطني"، الذي لا يستقيم بدونه أي مشروع ديمقراطي أو إصلاحي.
أولاً: صوت الاختلاف شرط للتقدم
التعدد في الآراء والتوجهات ليس مصدر ضعف، بل هو علامة صحة المجتمعات الحيّة. فكل تجربة تاريخية ناهضة مرت بمرحلة صخب فكري ونقاش اجتماعي واسع. غير أن ما يُميّز بين النقاش البنّاء والصراع الهدّام، هو وجود إطار مشترك مرجعي—غالبًا أخلاقي أو وطني—يُحدد حدود اللعب السياسي والمعرفي.
إن رفع الصوت ليس تهديدًا، ما دام لا يقطع خيط الانتماء، ولا يُقصي الآخر المختلف، بل يتعامل معه بوصفه شريكًا في الوطن، لا خصمًا في معركة بقاء.
ثانياً: ظل الودّ كضمانة اجتماعية
هنا يأتي مفهوم "ظلّ الود" بوصفه استعارة أخلاقية واجتماعية غاية في العمق. فهو ليس مجرد محبة شخصية، بل نمط من التعايش والتقدير المتبادل بين الفرقاء، حتى في أوج الاختلاف. فالودّ لا يعني غياب التوتر، لكنه يضمن أن لا يتحوّل هذا التوتر إلى قطيعة.
لقد أثبتت التجارب أن المجتمعات التي تحتفظ بروح التضامن والاحترام المتبادل، قادرة على احتواء أزماتها وتحويرها إلى فرص. بينما تنهار المجتمعات التي تفقد هذا الظلّ، لأنها تدخل في مسار تصادمي يجعل كل اختلاف مشروع إلغاء.
ثالثاً: تدهور الدول العظمى... والدرس الصامت
إن الإشارة إلى "تدهور دول أعظم منا" ليست مجرد خطاب تحذيري، بل تذكير بأن التاريخ لا يحابي أحدًا. فقد رأينا أن دولًا تمتلك ترسانة اقتصادية وعسكرية هائلة، تفككت من داخلها حين تصدّعت روابطها الاجتماعية وتحوّل اختلافها إلى شرخ.
فيوغوسلافيا، وبعض بلدان الربيع العربي، تقدم لنا نماذج ملموسة عن كيف يمكن للتوترات الداخلية، حين تفلت من عقالها، أن تقود إلى انقسامات جغرافية، أو حروب أهلية، أو انهيارات مؤسساتية.
نحن لسنا أعظم من هذه الدول، بل نحن أشد هشاشة، ما يجعل مسؤوليتنا مضاعفة، في الحفاظ على الحد الأدنى من الوعي الجمعي، والقيم المشتركة، و"ظل الودّ" الذي نتفيأه ساعة اختلافنا.
يجب علينا بناء ثقافة اختلاف مسؤولة، تتأسس على التقدير المتبادل والإيمان بالانتماء الواحد، فهو التحدي الأكبر أمام أي مشروع وطني. ولا يتحقق هذا إلا بإحياء منظومة من القيم التربوية والفكرية، تُعلِّمنا أن الاختلاف ليس خيانة، وأن الصراخ لا يُلغي القرابة الوطنية، وأننا مهما تباينت وجهات نظرنا، فمصيرنا واحد.
فليعلُ صوت النقاش، ولكن لا يخفت ظلّ الود.
قاسم صالح