فى بلدي، تتعدّد الثقافات وتتنوّع الشرائح، غير أنّ هذا التعدّد، بدلًا من أن يكون مصدرًا للقوة والوحدة، تحوّل – في المراحل السابقة لنشوء الدولة الحديثة – إلى أرضية لترسيخ البُنى الفئوية والتراتبية الاجتماعية، التي تُكرِّس مواقع اجتماعية جامدة، يتعالى فيها بعضُ الناس على بعضٍ، دونما موجبٍ من عقلٍ أو علمٍ أو عدل.
وقد أسهمت الفئات المُهيمنة – من خلال تلاعبها بسرديات التاريخ وصياغتها للوعي الجمعي – في رسم صورة مثالية لنفسها، تستند إلى الفضل والمكانة، بينما قزّمت أدوار شرائح أخرى، ووضعتها في مراتب دنيا، لا يُعترف لها بدور، ولا بمكانة، مولدةً صورًا نمطية مهينة، جعلت من الإبداع عيبًا، ومن العمل اليدوي عارًا ومصدرًا للسخرية.
ومن أبرز ضحايا هذا التهميش التاريخي شريحة "لمعلمين"، التي، كغيرها من سدنة السيف والقلم، أدّت دورًا محوريًا في نشر العلم والمعرفة، وأسهمت بفاعلية في دعم الاقتصاد من خلال توفير الأدوات، والأسلحة، والأواني، وسائر الضروريات التي لا يستغني عنها المجتمع.
ورغم هذه المساهمة الجوهرية، لا تزال هذه الشريحة – ونحن في عام 2025 – تُواجَه بنظرات دونية، وتُوصم بأوصاف تمسّ كرامتها، من قِبَل من يُفترض فيهم حمايتها. وهو ما يعكس استمرار عقلية تُقلِّل من شأن العمل المنتج، وتُعلي من قيمة البطالة والاتكال.
ثم إن أدوات الحِرفة، التي كانت تمثّل الذكاء والمهارة، كـعبلة الصانع وهي أداة مخصصة لثقب المنتجات كالأحجار الكريمة المستخدمة في صناعة الحُلي والزينة – تحوّلت في الخطاب العام إلى رموز تُستخدم في التهكّم والاستهزاء، بدلًا من أن تكون مصدرًا للفخر والاعتزاز.
فإلى متى سنظلّ أسرى لعقلية دهرية تُقصي المستقبل وتُؤلّه الجمود؟
إلى متى نرفض أن نُفسح لهذا الوطن طريقًا نحو التقدّم، وكأنّ نهضته تهدّد مكاسبنا الوهمية؟
إلى متى نراوح مكاننا، عاجزين عن تجاوز قيود الماضي، متواطئين مع تاريخه الظالم، كأنّما قُدِّر لنا أن نظلّ خارج حركة الزمن؟
إلى متى نتقن التبرير ونتقاعس عن الفعل؟ نُكثر من التشخيص ونهاب المبادرة؟
إلى متى... وإلى متى؟
أما آن الأوان أن نصحو من غفلتنا، ونفتح لهذا البلد أفقًا جديدًا، تُبنى فيه الكرامة على أساس المساواة، ويُقاس فيه الإنسان بما يُقدّمه من عطاء، لا بما يرثه من نسب أو موقع؟
لقد آن الأوان لمراجعة هذا الإرث الثقيل بكلّ جرأة وصدق. فموريتانيا لا يمكنها أن تبني مستقبلًا عادلًا ومزدهرًا دون تفكيك الصور الذهنية المتجذّرة، التي تُقصي فئاتٍ بأكملها من حقّ الاعتراف والإنصاف. إنّ الاعتراف بدور شريحة "لمعلمين" – وسواها من الفئات المهمَّشة – لا يُعدّ إحسانًا أو تفضُّلًا، بل هو واجب وطني وأخلاقي، يندرج ضمن مشروع بناء مواطنة متساوية تُكرّم الإنسان بقدر ما يُقدّمه من جهد، لا بقدر ما وُلد فيه من نسب أو انتماء.
إبراهيم سيداتي
بتاريخ 13/05/2025