حين تهزم الجغرافيا أمام الإرادة../ قاسم صالح

2025-07-31 23:20:32

في مساء مفعم بالدلالة، كانت المناسبة مناقشة أطروحة الماستير لطالب بسيط، جلب معه إلى القاعة أكثر من مجرد بحث أكاديمي، جلب سردية حياة، وانتصارا على الجغرافيا الاجتماعية، وتجسيدا حيا للمعرفة المتقشفة.

لم يكن ذلك الطالب محاطا فقط بأعضاء اللجنة، بل بخلفية من النضال الصامت: والده، والدته، وجوه بسيطة تخفي وراء تجاعيدها تاريخا من الكفاح، وتستبطن حلما واحدا: أن يبلغ ابنهم أعلى مراتب العلم.

كانت المناقشة مفعمة بالأحاسيس، لا كما يقال مجازا، بل كما تلمس فعليا في نبض اللحظة: توتر شفاف، اعترافات صادقة، دموع تتوارى خلف الكلمات. لقد كانت، بكل المعايير، لحظة من لحظات الصدق الوجودي بتعبير سورين كيركغور، حيث تنكشف الحقيقة في أوج ضعف الإنسان، لا في استعراض قوته.

وفي آخر تدخل للطالب، بعد انتهاء الأسئلة والتوصيات، وقف بكامل تأثره، ليقول:  أشكر أستاذي [محمد عبد الله]، ليس فقط لأنه وجهني أكاديميا، بل لأنه، في لحظات كثيرة، كان يعينني ماديا حين كنت أعجز عن تحمّل مصاريف التنقل.

ثم توقف قليلا، والتفت إلى والدته بنظرة امتنان دامعة، وقال:  لقد باعت أمي، ذات مرة، المعزه الحلوب كانت تربيها في البيت، فقط لأتمكن من القدوم إلى الكلية…

عند هذه الجملة، لم تعد الجلسة جلسة مناقشة، بل انكشفت الحقيقة الكاملة: أن المعرفة، حين تصدر عن الألم، تكون أكثر صدقا ، كما كتب فالتر بنيامين ذات مرة:

إن التاريخ لا يتقدم بأقدام الأقوياء وحدهم، بل بأشلاء المتألمين في صمتهم. 

سقطت البروتوكولات، وذاب الحياد الأكاديمي أمام حرارة الإنسان.

كانت (المعزه الحلوب) التي باعتها الأم رمزا أنثروبولوجيا كثيف الدلالة، لا للحاجة فقط، بل لقدرة الأم الموريتانيه على تحويل أبسط أدوات العيش إلى جسور للحلم.

لقد جسدت، دون أن تدري، ما أسماه كلود ليفي ستراوس الفعل البدائي النبيل، حيث تحول المادة اليومية إلى معنى سام.

أما الأستاذ المشرف، فقد تجلى في صورته المثلى، كما وصفه باولو فريري: مرب لا يلقن، بل يحرر.

وفيه أيضا الكثير من المربي الأخلاقي كما تصوره جون ديوي: ذاك الذي لا يعلم فقط كيف نعرف، بل كيف نكون.

كان المشهد، في عمقه، يشبه ما وصفه أفلاطون في الجمهورية، حين يخرج الفيلسوف من كهف النور ليصطحب غيره إليه؛ ذلك ما فعله هذا الأستاذ مع طالبه، لا عبر المجاز العقلي وحده، بل عبر التضامن العملي.

أما الطالب، فهو لم يكن فردا عابرا، بل كان كائنا يبحث عن معنى، وقد وجده في الحقول المعرفية، كما وجده في بيت أمه.و يذكرنا  مساره بما قاله أنطونيو غرامشي: المثقفون الحقيقيون هم أولئك الذين يصعدون من الهامش، ويصنعون شرعيتهم بصمت وتأمل وشقاء ، وقد صدق المتنبي حين قال، وكأنه يلخص لحظة هذا المساء:

وإذا كانت النفوس كبارا… تعبت في مرادها الأجسام.

في هذا المساء، لم نمنح فقط شهادة علمية لطالب، بل تلقينا جميعا شهادة إنسانية. 

علمتنا هذه اللحظة أن الكلية ليست جدرانا بل ضمائر، وأن الأستاذ الحق – كما قال جان جاك روسو – هو من يوقظ في الطالب قدرة على أن يحب المعرفة، لا فقط أن يحفظها.

لقد آن الأوان لأن نعيد للمعرفة وزنها الأخلاقي، لا بوصفها سلعة نخبوية، بل مسارا مفتوحا لمن يملك الشغف، ولو باع من أجله آخر ما لديه.

ليست الشهادات ما يعلق على الجدران، بل الكرامة التي تكتسب في طريق نيلها، تلك الكرامة التي بدت اليوم في وجه أم باعت الشاة الحلوب الوحيد عندها لتحلق أحلام ابنها، وفي أستاذ لم يقف عند دور التوجيه، بل وسعه إلى معنى الرعاية، وفي طالب فهم أن التفوق ليس امتيازا، بل أخلاقا تخرج من رحم الحاجة، وإرادة تعلو على الجغرافيا.

في زمنٍ تتكلم فيه الوقائع، وحدها الأفعال الصامتة تنقذ المعنى.

وفي مساء كهذا، لم يكن العلم مجرد إنتاج للمعرفة، بل كان شكلا من أشكال الوجود الحقيقي. 

كنت على صواب  يا محمود درويش عندما قلت :  على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وعلى هذه الدموع ما يستحق الانحناء.( لأولئك الذين يصعدون من الهامش بشرف، حاملين الحلم في يد، والكرامة في الأخرى.إلى كل أم ربت المعرفة في فناء بيتها، وإلى طالب جعل من الألم دربا نحو النور، وإلى أستاذ آمن أن العلم رسالة قبل أن يكون مهنة، لكم جميعا، هذه السطور المضيئة بالعرفان..

شكرا

قاسم صالح

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122