حين نتأمل واقعنا العربي اليوم، نكتشف أن أعظم ما ضاع منا لم يكن الأرض وحدها، بل المعنى. فالعروبة التي كانت يومًا راية جامعة، أضحت في أذهان كثيرين شبهةً قومية أو حنينًا ماضويًّا لا يتسق مع "الحداثة" المعلّبة التي يُراد لنا أن نستهلكها بلا وعي.
لكن العروبة، في جوهرها، ليست لونَ جلدٍ ولا سلالةَ دم، بل هي لسانٌ ورسالة.
إن أعلام اللغة العربية الأوائل لم يكونوا من نسل القبائل العربية، بل من شعوب شتّى. سيبويه، الفارسي، وضع أسس النحو، والزمخشري المعتزلي، من خوارزم، أبدع في التفسير والبلاغة، والبخاري ومسلم، أئمة الحديث، كانوا من بلاد ما وراء النهر.
وهل ننسى الإمام أحمد، الذي ثبت للقرآن وبلاغته في فتنة القول بخلقه، وكان من أعظم حماة لسان العرب ومعناه؟
العروبة كانت عندهم انتماء للرسالة، لا للقبيلة.
لقد آمنوا أن العربية لغة القرآن، لغة العقل والبيان، فنصروها، فأحيتهم، وخلّدهم بها التاريخ.
فأين نحن من ذلك اليوم؟
اليوم، تمزقت الأوطان، وانهارت الهويات الجامعة، لا لأن العروبة فشلت، بل لأننا خنّاها.
تحولنا إلى طوائف وإثنيات، وأصبحنا نُجزئ المجزّأ، ونقسم المقسم، في مشهد عبثي ترعاه قوى استعمارية جديدة، لا تحتل الأرض هذه المرة، بل تسكن الأذهان، وتعيد تشكيل الوعي.
استعمارٌ ناعم، لكنه أكثر فتكًا، يجعل من الانقسام حرية، ومن الانفصال حقاً، ومن التبعية تقدماً.
إن الصراع اليوم ليس بين عروبة وغير عروبة، بل بين وعي أصيل وتفكك مصطنع.
بين من يؤمن بالانتماء الكبير الجامع، وبين من يستسلم للهويات الضيقة التي تُغذّى سياسيًا وثقافيًا.
فالعروبة ليست خصمًا للآخر، بل حافظة للكل.
هي التي استوعبت فارس وبلاد النوبة والأمازيغ والأكراد والتركمان، لا تمحو خصوصياتهم، بل تفتح أمامهم أفقًا أوسع للانتماء والمشاركة في مشروع حضاري جامع.
يا أبناء العروبة:
عودوا إلى لغتكم، فهي هويتكم.
اعلموا أن الدفاع عن العروبة ليس تعصبًا، بل هو تحرير للإنسان من التبعية.
في زمن التمزق والتشرذم، تعود الأسئلة الكبرى لتطرق أبواب الوعي: من نحن؟ وما معنى أن نكون عربًا في هذا العصر؟حين قال المناضل الكبير مسعود ولد بلخير أنا عربي اشرابت الانفس المريضة التي مزقها الجهل بالتاريخ وحب المال والجاه...لكنهم لم يعلموا أن هنا في موريتانيا، حيث يتقاطع العرق باللسان، وتتزاحم الذاكرات في وطن واحد، يصبح هذا السؤال أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
لطالما كانت موريتانيا، بلد المليون شاعر، قلعةً من قلاع العربية، لا بالنسب فقط، بل بالعلم واللسان.
من أرضها خرج العلماء، وحُفّاظ المتون، ومشايخ المحاظر الذين حفظوا للغة الضاد عزّها في صحراء الصمت، وجعلوا من الحرف منارة في ليل التيه الثقافي.
لكن ماذا جرى اليوم؟
تُحاصر العربية من كل جانب، لا بمرسوم قانوني، بل بخطط ثقافية ناعمة، وإهمال مقصود، وتيارات تحاول أن تجعل من الانتماء للعربية تهمة أو انحيازًا ضد الآخر.
وفي مفارقة صارخة، نرى من ينتمي لقبائل عريقة في النسب العربي، لكنه لا يدافع عن لسانه، في حين أن أعلام العربية الأوائل، كسيبويه والزمخشري والبخاري، لم يكونوا عربًا بالأصل، لكنهم خدموا اللغة ورفعوا لواءها حتى غدت العروبة لسانًا لا نسبًا.
العروبة في موريتانيا ليست قضية إثنية، بل خيار حضاري.
وهي مهددة اليوم من أمرين خطيرين:
1. الجهل بها من أهلها، إذ تُهمّش المحاظر، وتُحاصر العربية في المؤسسات، وتُقدَّم اللغات الأجنبية بديلاً حضاريًا في التعليم والإعلام والإدارة.
2. الخطاب الهوياتي الضيق، الذي يُستغل لتأجيج الفُرقة بين مكونات الوطن الواحد، ويُصوّر العروبة كتهديد لهويات أخرى، بينما كانت تاريخيًا وعاءً جامعًا، حافظًا للتعدد لا ماحيًا له.
والأسوأ أن هذا كله يجري تحت أنظار نخبة سياسية وثقافية، بعضها يجهل جوهر المشروع العربي، وبعضها الآخر يهادن القوى الدولية الصامتة التي ترى في تفكيك الهويات الجامعة مدخلًا للسيطرة.
إن الاستعمار الجديد لا يحتاج إلى جيوش، بل يكفيه أن يقتل اللغة والهوية.
فالعربية في موريتانيا ليست أداة للتفوق، بل مسؤولية تاريخية.
هي التي جمعت بين لحمة البيظان والهالبولار والسوننكي والولوف، في محاظر شنقيط، وفي حلقات العلم، وفي وجدان الناس.
وإذا انهارت اللغة، انهار معها الرابط الجامع، وصار كلٌّ يبحث عن خلاصه في كيانات ضيقة لا تصمد أمام العواصف.
يا أبناء موريتانيا:
أعيدوا للعروبة معناها، ولغتها مكانتها، وللمشروع العربي دوره الحضاري.
كونوا امتدادًا لسيبويه والشناقط الأوائل حملت مشعل التنوير في ادغال افرقيا
فالعروبة ليست خصمًا لأحد، بل أفقًا جامعًا لكل من أحبّ العربية وارتضى بها طريقًا للتحرر والوحدة.
قاسم صالح