المعلم صاحب رسالة قبل أن يكون موظفا: قراءة فكرية وتربوية مع إسقاط على واقع موريتانيا
التعليم هو الركيزة الأساسية لبناء الأمم وصياغة مستقبلها، والمعلم هو حجر الزاوية في هذا البناء. وإذا كان البعض ينظر إلى مهنة التعليم بوصفها وظيفة عادية يحددها الأجر أو العقد، فإن النظرة التربوية والفكرية العميقة ترى المعلم صاحب رسالة تتجاوز حدود المهنة إلى فضاء النهضة والتحرر. وقد لخصت العبارة الخالدة (قم للمعلم وفّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا) عمق هذه المكانة، إذ شبّهت المعلم بالرسول لما يحمله من أمانة في صناعة الوعي وإعداد الأجيال.
ومع ذلك، فإن واقع التعليم في عالمنا العربي والموريتاني خاصة، يكشف عن فجوة بين هذه الرسالة السامية والسياسات التعليمية التي همّشت مكانة المعلم، حتى برزت ظواهر مثل (العقدويين) التي حوّلت المهنة من رسالة إلى وظيفة هشة مرتبطة بالعقود المؤقتة.
في الفلسفة التربوية الحديثة، أكد جون ديوي أن التعليم ليس عملية ميكانيكية لنقل المعارف، بل هو تجربة حياتية واجتماعية، دور المعلم فيها توجيه المتعلم نحو الإبداع والمشاركة. هذا البعد الرسالي يتناقض مع اختزال المعلم في إطار الموظف الذي يؤدي ساعات محددة مقابل أجر.
ويرى مالك بن نبي أنّ النهضة تبدأ بصناعة (الإنسان الفاعل)، والمعلم هو أداة هذه الصناعة لأنه يغرس في المتعلم القدرة على حمل الفكرة والالتزام بها. وبالمثل، رفع طه حسين مكانة التعليم إلى حق أصيل لا يقل عن الماء والهواء، الأمر الذي يجعل رسالة المعلم مرتبطة بالعدالة الاجتماعية وحرية الإنسان.
يتضح إذن أن المعلم ليس موظفا فحسب، بل هو قدوة ومرب، ومسؤول عن صناعة الإنسان الجديد الذي يحافظ على قيم الأمة ويقودها نحو المستقبل.
في التجربة العربية الحديثة، قدم جمال عبد الناصر رؤية عميقة للتعليم، رآه مشروعا قوميا للتحرر والعدالة. فقد اعتبر أن (المعلم هو الجندي المجهول) في معركة بناء الوعي الوطني، وأطلق مشروع التعليم المجاني ليكسر الفوارق الطبقية ويمنح أبناء الفقراء فرصة المساهمة في نهضة الأمة.
كان جمال عبد الناصر يرى أن التعليم ليس لتخريج موظفين، بل لصياغة جيل قادر على التحرر من الاستعمار والتبعية. ولذلك ارتفع مقام المعلم في مشروعه إلى مستوى حامل رسالة قومية، جزء من معركة الأمة في مواجهة الجهل والتخلف. إن استحضار هذه التجربة اليوم يفتح أعيننا على ضرورة إعادة الاعتبار للمعلم باعتباره فاعلا استراتيجيا لا مجرد منفذ للسياسات.
في موريتانيا، ورث النظام التعليمي منذ الاستقلال أزمات عميقة: ضعف البنية التحتية، أزمة المناهج، غياب العدالة الجغرافية في توزيع المدارس، وقلة الكوادر المؤهلة. ومع مرور الزمن، تعمقت الأزمة بظهور فئة (العقدويين)، أي المعلمين والأساتذة الذين يعملون بموجب عقود مؤقتة دون ضمانات وظيفية.
هذه الظاهرة انعكست سلبا على مكانة المعلم ودوره
زعزعت استقراره النفسي والمهني.
قلصت صورته الاجتماعية كقدوة.
أضعفت الدافعية لدى المعلمين، وهو ما انعكس مباشرة على مستوى التلاميذ.
وبدل أن يكون المعلم صاحب رسالة، أصبح في كثير من الحالات مجرد موظف مؤقت ينتظر عقدا جديدا، وهو ما يعكس هشاشة السياسات التعليمية ويهدد مستقبل النهضة الوطنية.
إن ظاهرة العقدويين ليست مجرد وضعية وظيفية، بل هي انعكاس لرؤية تعتبر التعليم عبئا ماليا أكثر من كونه استثمارا استراتيجيا. وإعادة الاعتبار للمعلم في موريتانيا تستدعي
دمج العقدويين في سلك تعليمي مستقر يضمن لهم الكرامة المهنية.
توفير تكوين مهني مستمر يرفع من كفاءتهم.
إعادة الاعتبار الاجتماعي للمعلم كقدوة ومرب.
تبني فلسفة ترى التعليم رسالة حضارية لا مجرد خدمة إدارية.
إن الانتقال من (المعلم العقدوي) إلى (المعلم صاحب الرسالة) شرط ضروري لإصلاح التعليم في موريتانيا، ولإعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
المعلم قبل أن يكون موظفا هو حامل رسالة سامية، دوره صناعة الوعي وبناء الإنسان. وقد أكد الفكر التربوي الحديث (ديوي، بن نبي، طه حسين) هذا البعد، بينما جسده جمال عبد الناصر في مشروعه القومي للتعليم بوصفه معركة تحرر وعدالة.
أما في موريتانيا، فإن بروز ظاهرة العقدويين يعكس أزمة بنيوية في النظر إلى التعليم، حيث جعل المعلم موظفا هشا بدل أن يكون صاحب رسالة. إن إصلاح التعليم يمر بالضرورة عبر إعادة الاعتبار للمعلم وتحريره من منطق العقود إلى منطق الرسالة، لأنه وحده القادر على صياغة الإنسان الجديد وبناء مستقبل الأمة.
قاسم صالح