الجيل العثماني الأخير: جذور الشرق الأوسط الحديث بين الاستمرارية والصدمة

2025-09-16 16:14:11

في زمن يتخبّط فيه الشرق الأوسط بين الحروب والانقسامات وسؤال الهوية، يقدّم كتاب "الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث" للمؤرخ الأميركي مايكل بروفانس قراءة جريئة تعيد النظر في تاريخ نشأة الدولة الحديثة في المنطقة. صدر الكتاب بالإنجليزية عام 2017، وتُرجم إلى العربية عام 2025 على يد أحمد سالم سالم، ونشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

بعيدًا عن السرد التقليدي الذي يربط ولادة الكيانات العربية الحديثة بانهيار الإمبراطورية العثمانية وبداية الانتدابات الأوروبية، يؤكد بروفانس أن نخبة من المثقفين والضباط العرب، الذين تخرجوا من المؤسسات التعليمية العثمانية، هم من شكلوا البنية العميقة للشرق الأوسط المعاصر، بما في ذلك تصورات السلطة، ومفهوم الدولة، وشكل المقاومة.

---

أولاً: التنظيمات العثمانية وصعود جيل الحداثة

ينطلق الكتاب من تفكيك الصورة النمطية التي تصوّر الدولة العثمانية كـ"رجل مريض" على هامش الحداثة الأوروبية. بل يرى المؤلف أن القرن التاسع عشر العثماني كان مرحلة تحديث فعلي، خاصة في فترة التنظيمات (1839–1876) التي دشنت نظامًا إداريًا وتعليميًا جديدًا.

في قلب هذا النظام، نشأ جيل جديد من العرب العثمانيين، درسوا في الكليات الحربية والمدنية في إسطنبول وحلب ودمشق، وتشرّبوا رؤية الدولة الحديثة، لا بوصفها كيانًا سلطانيًا تقليديًا، بل بوصفها مشروعًا عقلانيًا مؤسساتيًا. وقد كان هذا الجيل متجاوزًا للهويات الطائفية، حاملاً لهوية "عثمانية وطنية" جامعة.

---

ثانيًا: لحظة الصدمة وانهيار المشروع

مع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط إسطنبول عام 1918، واجه هذا الجيل لحظة انهيار مزلزلة: ليس فقط في الجغرافيا السياسية، بل في التصور الكلي للعالم. فجأة، تقاسمت القوى الاستعمارية المنطقة عبر اتفاقية سايكس–بيكو ووعد بلفور، فُرضت حدود جديدة، وظهرت كيانات سياسية مصطنعة، بينما زُرعت سرديات جديدة تنكر كل ما سبقها.

يستحضر بروفانس رمزية سرقة لورنس العرب لإكليل الإمبراطور الألماني من ضريح صلاح الدين في دمشق كدلالة على الانقطاع الرمزي المصطنع بين الماضي العثماني والحاضر الاستعماري، لكنّه يُصرّ على أن التغيّرات لم تكن قطيعة تامة، بل استمرارية مضطربة.

---

ثالثًا: مقاومة ما بعد العثمانية وبذور الوطنية

بعكس ما تروّجه الروايات القومية لاحقًا، لم يكن هؤلاء الضباط العرب في البداية "قوميّين" أو "انفصاليين"، بل كانوا أبناء مشروع عثماني تحديثي. ومع الانهيار، لم يتبنّوا الوطنية العربية فورًا، بل خاضوا مواجهات ضد المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، بوصفهم قوى غير شرعية.

نموذج ذلك:

يوسف العظمة: خريج الكلية الحربية العثمانية، قاتل في معركة ميسلون (1920) ضد الفرنسيين، وهو يرى نفسه وريثًا لمؤسسة لا لعهد جديد.

ياسين الهاشمي: ضابط عثماني من العراق، رفض مشروع الانتداب البريطاني.

عبد الرحمن الشهبدر وإبراهيم هنانو: قادة ثورات استندت إلى بنية سياسية وفكرية تربت في ظل التنظيمات، لا في كنف القوميات المستجدة.

هذه النماذج، كما يوضح الكتاب، لم تكن حركات انفصال عن الدولة العثمانية، بل محاولات مقاومة للهيمنة الجديدة، اعتمادًا على أدوات الدولة السابقة.

---

رابعًا: نقد السرديات القومية والاستعمارية

من أكثر جوانب الكتاب إثارة هو نقده العميق للروايات القومية التي تبنّت، دون تمحيص، الخطاب الاستعماري الذي صوّر العثمانيين كقوى رجعية، واحتفت بـ"المحرر" الأوروبي. يرى بروفانس أن هذا القبول لم يكن مجرد تواطؤ سياسي، بل إعادة هندسة للوعي التاريخي، أنتجت انقسامات طائفية، وشرعنت تفكيك المشرق العربي.

يشير المؤلف إلى أن الخطاب الاستعماري تعمّد استحضار الماضي الصليبي كمرجعية شرعية، وهو ما تجلّى في زيارة فيلهلم الثاني لدمشق، وادعاءه حماية المسيحيين الشرقيين، تمهيدًا لتدخّل أوروبي شرعنته رمزية "التحرير من العثمانيين".

---

خامسًا: الشرق الأوسط الحديث… ليس بداية جديدة

الرسالة المركزية للكتاب: ما نعتبره "ولادة" للشرق الأوسط، لم يكن صفحة جديدة بل فصلًا مشوّهًا من قصة سابقة. الحدود المصطنعة، والنزاعات المتنقلة، وبنية الدولة الحديثة، كلها تحمل أثر ذلك الجيل العثماني الأخير، الذي لم يمت تمامًا، بل تسرّب وعيه إلى المؤسسات الجديدة، وإن بلباس مختلف.

إن إعادة فهم هذه المرحلة تفتح الباب نحو تفكيك السرديات القومية الجامدة، وتسمح برؤية أكثر ترابطًا بين دمشق وبغداد والقدس، خارج الحدود التي فرضتها قوى الخارج

---

خاتمة: درس في التاريخ من أجل الحاضر

يُعد كتاب مايكل بروفانس مساهمة أصيلة في إعادة قراءة المشرق العربي من زاوية تاريخية مقارِنة، تتحدى القطيعة وتُعيد وصل ما انقطع. إنه تاريخ لا يبحث عن مجد مفقود، بل عن جذور منسية لفهم حاضر مشظى.

الشرق الأوسط، كما يقترح الكتاب، لا يمكن أن يُفهم من خلال خريطة 1920 أو حتى 1948، بل من خلال سيرة أولئك الذين وُلدوا في ظلال الدولة العثمانية، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام عالم يتحدث لغات جديدة، لكنه يحمل إرثًا لم يُدفن بعد.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122