سمع كثير من الموريتانيين بحكاية ولد سعيد مع منت البار التي تم تداولها بطريقة سردية تهتم أساسا بالجانب الدرامي وبعامل التشويق على حساب الحقيقة احيانا. وساحاول في هذه السطور اعادة كتابة القصة مراعيا الحقائق التاريخية والروايات المؤصلة.
بطل القصة هو رجل من اغلال الخواره اسمه الكامل: محمذن فال ولد سعيد ولد عبد الجليل.
بطلة القصة امرأة من قبيلة تندغه/ بطن ايدكفوديه/اهل الطالب مسطف، اسمها الكامل رائعة منت البار من أسرة علم وصلاح وقد حج جدها وتوفي في بلاد الحرمين رحمه الله.
وقعت أحداث القصة في جنوب ولاية ترارزه في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي لانها تزامنت مع الزمن الذي عاش فيه الأمير سيدي ولد محمد لحبيب والشيخ سعد بوه.
البطل من وسط معروف بالعلم والصلاح وقوة الإيمان.. وعند اغلال الخواره مدرسة شعرية شهيرة تتميز بالبعد الصوفي وفيهم شعراء ذاع صيتهم كابناء محمد آسكر وأبناء حيمده ومن المعاصرين القامة الادبية الاستاذ عابدين ولد التقي..
ومن يتأمل في شعر ولد سعيد ولد عبد الجليل يجد تلك المسحة الصوفية.
كان ولد سعيد متعلما وجميل الخط. طلب الأمير سيدي ول محمد لحبيب منه ذات مرة أن ينسخ له نسخة من كتاب دلائل الخيرات للإمام الجزولي. فلما أتم نسخ الكتاب ضاعت عليه النسخة الأصلية، فغضب الأمير من ذلك، وألزم ولد سعيد بأن يرد عليه النسخة. وعثر عليها ولد سعيد فأرسلها للأمير سيدي، وقال يخاطبه وكانت بينهما صداقة بكلام لا يخلو من الجذب:
لَحَگْ لَلِّ گالْ اغدرتُ = واشْهَدْ بالله انِّ غدّارْ
عن لَكْتابْ المر اجْبَرْتُ = وانْ ذاكْ الْ فيهْ امنْ التحمارْ..
يعلمْ عنِ ما حَمّرْتُ = كونْ ابْحَمَيْرتْ منتْ البارْ ..!
وتنتمي منت البار لعائلة محترمة في قبيلة تندغه القبيلة الزاوية المعروفة بالعلم والصلاح. ويعود نسب عائلتها للشرفاء الادارسة (اولاد الشريف ببوزول).
ارتبط ولد سعيد بعلاقة عاطفية بمنت البار وقد تقدم في السن حسب الرواية الشعبية. وكانت بينهما علاقة نزيهة إلى أقصى درجة فكلاهما متدين وأخلاقي كما هو موثق. ولكن هذه العلاقة نسجت في نفس الوقت قصة من الوجد والحرمان والمعاناة لا تقل درامية عن قصص بعض شعرائنا العرب كقيس الملوح وكثير عزة وإبن زيدون..
وكان الغزل عند ولد سعيد عذريا عفيفا خاليا من الخلاعة والمجون، حتى صار شعره في آخر عمره موعظة وايحاءات صوفية ربانية.
مر ذات مرة وقد اصبح شيخا مسنا على موضع اسمه امبطار تربطه فيه ذكريات مع منت البار فجاشت عاطفته وسكب دمعا مدرارا على خديه ولاحظ رفيق له في السفر الأمر وعاتبه وذكره بانه صار شيخا ولا يناسبه هذا الحال، فقال:
حد اكصرلِ ذالدهر اكَـطارْ= الدمع ْاعل دار امبطارْ
حكْ انْ ذاكْ اعلَ مثلِ عارْ = ؤيكدر يكصرْ حدْ اتواسيه
غيرْ اكطارْ الدمع اعل دارْ= امبطار ابلا غرظِ فيه=
فالحك ان متفقد ش = فم اعييت انراه ابديه
ويتم الدمع الا يمش=ماهو كاع آن لمشيه ..
وﻟﻤﺎ ﺣﻀﺮﺗﻪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺗﻤﻨﻰ ﺭﺅﻳﺔ ﻣﻨﺖ ﺍﻟﺒﺎﺭ، ﻓﺒﻌﺜﻮا ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭهي يومئذ امرأة كبيرة وﺟﺎءت لعيادته وهي ترتدي ﻣﻠﺤﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻴﻠﻪ ﻭقد وضعت الكحل على عينيها، ﻓﻘﺎﻝ :
ﻳَﻌَﺰْ ﺇﻝِّ ﻛﻂْ ﺇﺗﻜﺤَّﻞْ ===== ﻭﺇﻝِّ ﻛﻂْ ﺇﺯﻫﺎﻝُ ﺑﺎﻝِ
ﺇﻝِّ ﺟﺎﻭْ ﺇﺟﻤﺎﻝُ ﻳﺮﺣﻞْ =====ﻭﺍﻥَ ﺫﺍﻥَ ﺟﺎﻭْ ﺇﺟْﻤﺎﻝ..
ﻭانتقل إلى جوار ربه رحمه الله في تلك اللحظة..
لم يخل شعر ولد سعيد من ذكر محبوبته حتى في مدحه لبعض الشخصيات الوقورة المهابة..
روي أنه قدم على الشيخ سعد بوه عام شديد القحط فمدحه باثنتي عشر طلعه مظايرات على كاف فيه اشارة صريحة لتعلقه بمنت البار ومن هذه اطلع:
سالكْ من لمرارْ ؤلمساخ = واحلُو والدّين افصدرك ساخ =
واتفسخ لگلوبَ تفساخ = تصگلْ لگلوبَ للقهار =
والنور اعلَ وجهك يِتْباخ = گلبك يتلافخْ من لنوار =
بو صوم ؤضروري لشياخ = أبلغت في الوقت المختار=
يلّ يَعِملْ الله بيكْ إزيدْ = في الدّنيَ والدّهر ؤلعمار=
حدْ إِدِوّرْ بلّكْ باحْسيدْ = وإلِّ طاكْ الله منْ لسرارْ =
أبعدْ يالشيخْ اعليهْ ابعيدْ = امْنْ اعْلِيانَ منت البارْ..!
***
الطلبَه ياشيخي من حَرْ = الغيرَ عَرظولك بالشّرْ =
يَغير الْمِنهَ گاعْ ابْصَرْ = شافْ إنكْ ما تگدر تُشار =
بَحرْ احلوُ مشرومْ امن ابْحَرْ = ما يَفرغ مَاهْ ؤلا يِمرار =
جدر الصدرَه لعاد اخظر = معلوم الهَ ذاك افلخظار =
يلّ يَعِملْ الله بيكْ إزيدْ = في الدّنيَ والدّهر ؤلعمار=
حدْ إِدِوّرْ بلّكْ باحْسيدْ = وإلِّ طاكْ الله منْ لسرارْ
أبعدْ يالشيخْ اعليهْ ابعيدْ = امْنْ اعْلِيانَ منت البارْ..!
ويقول مادحا الأمير ولد محمد لحبيب وعارضا عليه في نفس الوقت حاجة تتعلق بمنت البار:
لَــحَّــگْ لِلِّي وَاسَ فِالـــشَّــــرْ = إِلْ لَاحِگْ لَخْــلاَگْ، ؤُلَا َظَـــر=
مِسْلِـمْ، عَنِّي نِـبْغِي نَجْــبَـــرْ = مَـــرْكُـــوبْ اِمَـرَّگْــنِي لِلـــدَّارْ=
اجْمَـلْ مَعْلُــومْ إِعُـودْ اذْكَـــرْ = نِـبْـغِـيهْ، ؤُخَالِـــگْ مِنْ لَخْبَـارْ=
إِلْلِّي مَذْكُورْ الْحَگْهُمْ شَـرْگْ = كِيفِــتْ تِخْـلِـيِّــتْ منت البار=
راعِ ذيك إيل عادت حگ= كافيني من مركوب احمار..!
يقول في غرض الفخر وان كان في قالب الغزل:
آنَ گِرتَه ما نِرْفِدْهَا = ماهُ فَالِ نِرْفِدْ گِرتَ=
وامّنيجَه ما نَجحَدْهَا = ؤلا نِـتْـلَـنْـدَ حَتّ حَتّ=
ؤمَسْلَه شَيْنَ ما نَعْمَدْهَا = ؤ تََعرَفْ گاعْ افْذَاكْ النِّكتَه=
ألّا خَايِفْ مِنْ رَدْ أخبارْ = شينَه تَسمَعها مِنتْ البَارْ=
واتگول إنِّ وَسَيْتْ العَارْ =وانْجي نَلحَگها مِلْتِفْتَ=
وَانَ ما نِگدرْ گاعْ أخبار = ابْذيكْ اللفتَه والسّكتَه..!
يعرض ولد سعيد دستوره في الحياة وزبدة تجربته الوجدانية في الطلعة التالية..
مر ذات مرة على امكنة لديه ذكريات مع منت البار فيها وقد بلغ سنا متقدمة وخرج من عالم المحبوبة فقال:
يعكَلِ دهرْ إنْدَوْكَلِّ=فاتْ أخَنِّ فاتْ إتَّلِي=
لحكَكْ بالتخمامْ إتْولِّ=فالْيالِي فاتُ مانفعوكْ=
لحكَكْ زادْ إتُّوبْ إمَّلِّ=لريامْ إلّ تبْغِ تركوكْ=
وانتَ زادْ أتْركْ ذوكْ إلَّ=ماتبْغيهمْ فاجْريمتْ ذوكْ..
ويقول في غرض الحكمة وقد البسه ثياب الغزل:
كَطْ إلَ بعدْ الدهر إثْقالْ=خظتْ أخمستْ إشْهرْ بالتعدالْ=
مانمشِ عنْ لخْيامْ أُظالْ=إنْهاراتْ إمعَ منت البارْ=
فوتنَ لكْصارْ إبْذِ الحالْ=ؤرَمَضَانْ أُخظْنَ لفطارْ=
يغيرْ الدنْيَ غدَّارده=نِكْرِي ولْ آدمْ رَ لغْيارْ=
منْ وَصْفْ إحْلُو فيهَ مارَ=وَصْفْ أكثرْ منُّو منْ لمرارْ..
ويقول في نفس المعنى:
أطم الينظاك=من غايت لمرار
أطمو لفراك=امع منت البار
أمتن شي محنه=وكثرو معن
ساعه منشطنه=شدين لخبار
فالدار ءفتنَ=عدنَ تل الدار..
وعلى كل حال ظل ولد سعيد يعبر في شعره عن عاطفته القوية ولكنه يختلف عن الشعراء في طريقة التعبير عن عاطفته، فهو لا يذكر مقلة ولا خدا ولا ثغرا ولا اطرافا ولا اي جزء من جسم المحبوبة..وهذا نوع عجيب وجديد في الشعر من التعفف والتسامي على الشهوانية المادية، فاسس بذلك منهجا خاصا في الغزل يمثل الشخصية الدينية الشنقيطية الأصيلة..
يقال ان اول كاف قاله في الغزل على منت البار هو:
اﻣﻨﺎﺩﻡ ﻣﺎ ﺷﺎﻑ ﺍﻟﺘﻨﺸﺎﻑ = ﺍﻋﻞ ﻣﻨﺖ ﺍﻟﺒﺎﺭ ﺍﻋﻞ ﻧﺎﺭ=
ﺍﺗﻨﺸﻒ ﺧﻠﺘﻬﺎ ﻣﺎ ﺷﺎﻑ =ﺍﻟﺘﻨﺸﺎﻑ ﺍﻋﻞ ﻣﻨﺖ ﺍﻟﺒﺎﺭ..!
لم يزد على قول ان من فاتته رؤية منت البار وهي تنشف ثيابها المبللة بالمطر على النار فكأنما فاتته الدنيا..مجرد فكرة..ولكنها تعبر عن كل شيء..
وذات مرة اضنى به الوجد والحرمان من لقاء المحبوبة وقيل انه اصبح في هذه الفترة يحيا حياة قيس الملوح في تشرده وانزوائه عن الناس. ونزل أمير ترارزه ومعسكره ضيوفا على الحي الذي فيه منت البار. فكانت المناسبة فرصة لرؤية ولد سعيد لمنت البار في خضم الزيارة، لاسيما ان الأمير كان صديقه وقد ارسل إليه. ولا يمكن تصديق الرواية التي تقول ان الأمير وهو معروف بالتدين والشهامة وحب العلم، قد رتب في تلك الليلة للقاء بين ولد سعيد ومنت البار فهما كما اسلفت من وسط محافظ ولهما اخلاق ودين. يقول في هذه المناسبة طلعته الشهيرة:
ﻧﻌﺮﻑْ ﻟﻴﻠﻪ ﺭﺍﺣﻮ ﻓﺮﺳﺎﻥ = ﺍﻣﻦ ﺍﻭﻻﺩ ﺍﺣﻤﺪ ﻣﻦﺩﻣﺎﻥ=
ﻋﻨﺪ ﺍﻧﻮﺷﺪْ ﺍﻧْﺨﻮﻅْ ﺍﺯﻣﺎﻥْ = ﻣﺎﻧﻲ ﻧﺎﺳﻲ ﻣﺮﻭﺣﻬﻢ ﻋﻨﺪ
ﺍﻧﻮﺷﺪ ﺃﻣﻮﻝَ ﻧﺴﻴﺎﻥ = ﻏﻴﺮ ﺍﺟﻤﻴﻌﺖْ ﻧﺴﻴﺎﻥ ﺑﻌﺪ=
ﺫﺍﻙ ﺍﻟﻤﺮﻭﺡْ ﻣﺎﻧﻲ ﻧﺎﺳﻴﻪ = ﻭﺃﻻ ﻳﻌﻤﻞْ ﻳﻜﻮﻥْ ﺍﻳﺮ ﺣﺪ=
ﻟﻴﻠﻪ ﻛﻴﻔﺖْ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻫﺮ ﺍﻋﻠﻴﻪ = ﻣﺮﻭﺡ ﻓﺮﺳﺎﻥ ﺃﻭﻻﺩﺍﺣﻤﺪ=
ﻣﻦ ﺩﻣﺎﻥ ﺍﻟﻠﻲ ﺭﺍﺣﻮ ﻓﻴﻪ = ﺫﻳﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﻪ ﻋﻨﺪ ﺍﻧﻮﺷﺪ..
لم يزد ولد سعيد على قوله انه كان يقاسي ويعاني عند موضع في وسط جنوب الكبله اسمه انوشد، وقدم فرسان من أولاد احمد من دمان ذات ليلة، ولن ينسى ما حيا قدومهم في تلك الليلة..مجرد سرد خبر..ولكن فيه ما فيه من الغزل..
ومن أجمل شعره عندي واكثره ابداعا وتعبيرا عن عفته والتزامه الديني الطلعة التي قال بعد طلاق منت البار، ويعبر فيها عن ازمته في كونه لا يستطيع لقاءها الا إذا انتهت عدتها في البيظ (ربيع الثاني او رجب) وهو ما زال في شهر عاشور (محرم)..فأصبح من شدة انتظاره يطالع الأفق لعله يرى هلال شهر ما زالت دونه ثلاثة شهور:
من عاشور إيل البيظ ؤخيظ = ذاك الشهره دهر اغليظ=
راه اطويل ازمانو واعريظ = ما يكصف عن كدو محزور
وكتن عاد ال عطب احفيظ @@ فكدي منو والعطب اغرور
فالبيظ امنكفرلي بكبيظ @@ ال عيني فيه امن الصور
عتآن من عزت لكريظ @@ للشهره، واجبير المديور
نتاوك داير شوف البيظ @@ مزلت افكمرايت عاشور..!
لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم..ما أجمل هذا..
يذكرني بقول ابن زيدون في معاناته من طول مدة فراق ولادة التي يحسبها بالشهور:
صَبراً لَعَلَّ الَّذي بِالبُعدِ أَمرَضَني
بِالقُربِ يَوماً يُداويني فَيَشفيني
كَيفَ اِصطِباري وَفي كانونَ فارَقَني
قَلبي وَهانَحنُ في أَعقابِ تِشرينِ..!
وعندي شخصيا يختصر الكاف التالي اسلوب ولد سعيد في الغزل:
خلُّو عنكمْ كثرتْ لخبارْ=يالناثِ واعليكم ْراثِي
منتْ البارْ ألاَّ منتْ البارْ=والناثِ لخْراتْ الناثِي..!
فبالنسبة له النساء في جهة تدعو للرثاء..ومنت البار في جهة ثانية..مجرد فكرة بسيطة..ولكنها في منتهى العمق وقوة التعبير عن العاطفة..
واكتفي بهذا الحد واعتذر عن الاطالة التي لا يخفي بعض القراء تذمره منها..
العقيد المتقاعد أحمد سالم ولد لكبيد