وقفة مع الأديب الراوية بابَه ولد أبْنُ

2014-06-23 01:31:00

رجل أحله الله حيث تجتمع أودية الدين والفتوة والظرافة ومكارم الشيم، فأخذ من كل ألوانهما بنصيب، وورث بالفرض والتعصيب، وهصر من كل دوحة غصنا.

.

لولا التحفظ من سريان التشبيه إلى جانب الاعتقاد لتمثلت في حقه بقول روح بن زنباع في عمران بن حطان: "ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا ولا شعرا إلا عرفه وزاد فيه".
تعرفت عليه ابتداء من سنة 1983 وكنت قد ناهزت العشرين من حياتي أحفظ ما يصل إلى أذني - أو تصل يدي إليه- من الأدب بلونيه وأنشده وأدعي إنتاجه، وكان بابه – رحمه الله- رجلا قد تبوأ كرسيه المعرفي وبلغ ذروة صيته الأدبي، ومن ثم كان يمكن أن يظل كل منا في واد حتى إشعار آخر.
بيد أن تعلقي بصداقة الكبراء وحرصي على الاستفادة منهم، وتواضعه الجم وخلقه الدمث قضيا بغير ما قضى به المنطق العرفي.
هذا الرجل كان في الأدب الشعبي بمثابة حسن الكرمي – رحمهما الله- في الأدب الفصيح! ومن أحسن ما فيه (وما أكثر الحسن فيه!) أنه حين يسأله السائل عن نص أدبي أو مزعة من نص أو نكتة أو مثل يقدمه في سياقه العام فيشفي غليل السائل ويمتعه ويفيده. وسأقتصر لذلك على مثال واحد سألته فيه عن "گافين" فأفادني قصة تضمنت تسعة عشر "گافا" وقصيدة.
أذكر أني وإياه كنا مرة عند آل الشويخ مرة فجرى ذكر قول الولي بن الشيخ يُبَّه:
حد امگاطعن گاطعنِ ** لمگاطعنِ گطاع اجدر
ما يگدر حد إيگاطعنِ ** أبدَ ما يگدر ما يگدر!
ورد محمد بن أبنُ عليه:
باعدت الشلات أذَ فات ** من عند اجدر لجدر لجدر
وايگد اتباعيد الشلات ** يصلح وايگد أفطن يخسر!
كنت أعرف "الگافين" وصاحب كل منهما دون زيادة، وكان واضحا لي أن الرجلين – رحمهما الله- استخدما ما يسميه البلاغيون بالمذهب الكلامي، وطالما فكرت وقدّرت دون أن أصل إلى جواب مقنع لما بين السطور. كدت مرة أسأل المرحوم محمدٍ بن سيد ابراهيم – رحمه الله- ثم عدلت لأسباب ربما كانت معروفة.
في تلك الليلة "الآفطوطية المُهَكْرِيَة" واتت الفرصة فسألت المرحوم بابَ عن رموز "الگافين" على هامش المجلس فقص علي القصة من أصلها؛ بدءا بقدوم محمد بن أبن إلى "الساحل" في السفرة التي قادته إلى مجلس الطرب الذي جرت المشاعرة فيه بالنمجاط، وسمى لي الجلساء وتفاصيل المواجهة (الحسية والأدبية) وأنشدني ستة عشر "گافا" (لولا الحرص على تجنب الحساسيات لأوردت ما أتذكر منها) زيادة على شرح لحن القول في اللذين سألته عنهما، وزاد فأفادني بموقع "الگاف":
أشبه حد إلى گد ** عن صيد إداشغرَ
يتمزْرَ وانَ بعدْ ** اندوَّر نتمزرَ
من القصة؛ مضيفا كيف اتجه ولد أبن من النمجاط جنوبا إلى انتورجه القريبة (وكانت وقتها حاضرة الإمارة التروزية) وحاك في الطريق رائعته الدالية:
صبغتِ بدمع عاشقك الخدودا ** وعنه أطلتِ في الصلة الصدودا
وحين قرّت مواشي "المحصر" وهدأت أصوتها أنشدها الأمير الراحل أحمد ابن الديد - رحمه الله- الذي أصغى برازانة إليها حتى وصل الشاعر إلى قوله فيها:
هو ابن الديد سيد كل ناد ** وأكثر كل ذي رتب شهودا
وعينك إن رأته رأت أميرا ** مهيبا هو أجدر أن يسودا
أعار الموت بعض الفتك منه** وألبس بعض هيبته الأسودا
فاهتز الأمير طربا وأريحية - وكان متكئا فجلس- وأقسم بحائه وجيمه أن لا يذكر ولد أبنُ حاجة إلا قضاها كائنة ما كانت، وواصل محمد إنشاده حتى أنهى قصيدته فأعاد الأمير السؤال عن حاجته فقال: تقيل معي غدا عند المطربين بالنمجاط. سكت الأمير ولم يعلق - يضيف محدثي رحمه الله- وعند طلوع الشمس أمر بإعداد الظهر فركبا إلى النمجاط الذي وصلاه بعد قليل فهب المطربون يظاهرون الفرش ويهيئون الضيافة للأمير ومن ضمه مجلسه، والتأم الجمع الكريم الملتئم أمس، وشدا الشادون الذين شدوا أمس، وألقى محمد ما جاد به بحره من درر أدبية كما أراد، وضَمِنَ وجود الأمير الأمن والهدوء تلقائيا، وسهل إصلاح ذات البين.
وفي المساء كان الوئام والمودة والإخاء قد أزاحت ما عداها فغادر الأمير إلى انتورجه، وولد أبن إلى وجهته، وودعهما فتيان النمجاط، وفي مقدمتهم الولي ولد الشيخ يبه. رحم الله الجميع.
وأدرك شهر زاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

 

من صفحة الأديب الباحث :محمدو سالم بن جدو على الفيس بوك

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122