د. سيدى أحمد ولد الأمير يكتب: أي مستقبل للغابون بعد الانتخابات الرئاسية؟

2016-09-23 03:34:00
مقدمة: طويت صفحة الانتخابات الرئاسية في الغابون بالإعلان عن فوز الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو أوديمبا، وإبعاد غريمه مرشح المعارضة جان بينغ ولو مؤقتًا. . ومع أن أول ما يتم تداوله عقب أي انتخابات رئاسية هي النسبة التي حصل عليها كل مترشِّح، وهل هنالك شوط ثانٍ أم أن أحد المترشحين فاز في الشوط الأول بأعلى نسبة من أصوات الناخبين. لكن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الغابون كان من نتائجها قصف مقر حزب زعيم المعارضة بالطائرات، ومحاولة إحراق البرلمان الحكومي من قِبل المعارضة، واعتقال ما يناهز ألف مواطن، ومقتل سبعة أفراد من بينهم ضابط شرطة، وعدد غير محدد من الجرحى(1).
 
بدأت موجة غضب الشارع الغابوني العارمة التي قادها مناصرو زعيم المعارضة جان بينغ عندما أعلنت اللجنة الوطنية للانتخابات نتيجة متقاربة جدًّا، لكنَّها تكرس فوز الرئيس المنتهية ولايته علي بونغو بنسبة 49,80% من الأصوات المعبر عنها على حساب خصمه جان بينغ الذي حصل على نسبة 48,23% من الأصوات. والواقع أن تقارب نتيجة المرشحين الأبرزين كان سببه ضآلة فارق الأصوات بينهما؛ حيث كان هذا الفارق أقل من خمسة آلاف صوت(2).
 
والواقع أن مرشح المعارضة جان بينغ كان قد تقدَّم على منافسه علي بونغو في ست ولايات (محافظات) من أصل تسع، غير أنه حصل تقدُّم كاسح لبونغو في ولايته التي ولد فيها وهي ولاية أغوي العليا (Région du Haut-Ogooué)؛ حيث حصد علي بونغو في هذه الولاية 95% من نتائج الأصوات، والغريب أنها هي الولاية الوحيدة من بين ولايات البلاد التي جاءت نتيجة تصويتها بعد الفرز فوق 95%، وكان الإقبال على التصويت أو نسبة المشاركة فيها فوق 99%، ذلك
 
أن نتائج الولايات الثماني الأخرى كان الإقبال على التصويت فيها في حدود 50% من المسجلين على اللوائح الانتخابية. وكان هذا التطور المفاجئ في نتائج الفرز، والذي جعل ولاية أغوي العليا تتصدر من حيث كثرة أعداد المصوِّتين سائر ولايات الغابون، قد فاجأ المراقبين للانتخابات وجعلهم يشككون في هذه النتيجة، كما جعل المعارضة ترفض رفضًا باتًّا نتائج التصويت بهذه الولاية(3).
 
واجه نظام علي بونغو المظاهرات الشبابية التي ملأت شوارع ليبرفيل بقمع واعتقالات، وقد ذكر المدعي العام للجمهورية الغابونية ستيف ندونغ أسام ندونغ في مؤتمر صحفي في 19 سبتمبر/أيلول 2016 أن الاعتقالات التي تلت الإعلان عن نتائج الانتخابات بلغت 800 شخص، وقد تم إطلاق سراح 407 أشخاص بعد جلسات الاستماع، في حين أحيل 393 شخصًا إلى السجن بتهمة أعمال العنف(4).
 
وفي مقابل هذه الاعتقالات والمواجهات كان مرشح المعارضة جان بينغ قد صرَّح في 3 سبتمبر/أيلول 2016 أنه هو رئيس الجمهورية؛ مما يعني أن هذه الانتخابات قد فتحت الصراع في الغابون على أشُدِّه، وأن الفجوة بين اللاعبيْن البارزين ما فتئت تتسع(5).
اللعبة السياسية في الغابون والشركاء المتشاكسون
 
تعدُّ الغابون إحدى أهم الدول الريعية في إفريقيا جنوب الصحراء، ويمكن مقارنتها بدول الخليج العربي من حيث الاحتياطي النفطي الذي يشكِّل 60% من الناتج المجلي الإجمالي، وتأتي بعد ذلك عائدات مناجم المنغنيز واليورانيوم، فضلًا عن عائدات أخشاب الغابات الاستوائيَّة. يلعب النفط الجزء الأكبر في اقتصاد الغابون، ويمثِّل ما يناهز 80? من صادرات البلاد، ومن ثَمَّ يطلق على الغابون في الصحافة الإفريقية "كويت إفريقيا". وفي الواقع، فإنَّ الغابون هي رابع أكبر منتج للنفط الخام في جنوب الصحراء الإفريقية، وتحتل المرتبة 37 على مستوى العالم(6). كما تأتي الغابون في المرتبة الثالثة عالميًّا بعد أستراليا وجنوب إفريقيا من حيث احتياطي المنغنيز(7).
 
غير أن هذه الاحتياطات الهائلة وريعها الضخم باتت -في ظل فساد مستشْرٍ ونظام سياسي ثابت- تؤول إلى مجموعة قليلة من الأثرياء ممن عُرف عنهم قربهم من فلك السلطة، وخصوصًا أسرة آل بونغو التي حكمت البلاد منذ سنة 1967. ورث الابن علي حكم والده عمر سنة 2009، وما زال فيه حتى اليوم، بل إنَّ علي بونغو تقلَّد المناصب السامية في حكم والده، فكان وزيرًا للدفاع فترة طويلة، وقد وضع يده على المؤسسة العسكرية وسيَّرها تسييرًا منعها من التفكير في تدبير أي انقلاب عسكري على والده أو عليه. ومع أن دستور البلاد ينصُّ على أن مدة العهدة سبع سنوات، ويعني فوز الرئيس علي بونغو الأخير أنه سيضيف سبع سنوات جديدة إلى سبع سنوات كان قد قضاها في الحكم منذ 2009، وهذا يعني في الخلاصة أن أسرة آل بونغو التي حكمت -حتى الآن- تسعًا وأربعين سنة، بدءًا بالأب عمر بونغو وانتهاء بالابن علي، ستظل في الحكم سبع سنوات قادمة؛ أي أن حكمها سيقارب ستة عقود(8).
 
كثيرًا ما وجِّهت أصابع الاتهام بالفساد للرئيس الوالد عمر بونغو، وأنه بدَّد ثروات بلاده في سبيل تقوية حكمه داخليًّا من خلال إشاعة الزبونية والفساد، وخارجيًّا من خلال شراء الذمم والولاءات؛ حتى وصل ذلك إلى التحكم في بعض أفراد الطبقة السياسية في فرنسا التي كانت تستعمر الغابون، والتي ظلت لها في هذا البلد الإفريقي مصالح اقتصادية واستراتيجية كثيرة ومتنوعة. وقد استطاع الرئيس عمر بونغو بتوزيع المال وإغراءات المصالح التأثيرَ على الدوائر السياسية الفرنسية، حتى وصف في الدوائر الإعلامية الفرنسية بأنه أحد أبرز الزعماء الأفارقة المتفاعلين مع خلية "فرانس-آفريك" التي تشكلت منذ عهد الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، والتي تعكس بشكل سري وقوي محاولة الدوائر المالية والاقتصادية الفرنسية نسج علاقات وطيدة مع صناع القرار في إفريقيا الفرانكفونية من أجل الحفاظ على مصالحها في مستعمرات فرنسا الإفريقية، وهو حفاظ لا يخلو من تدخُّلات فرنسية سافرة في شأن الدول الفرانكفونية، ويتم برعاية الحكومة الفرنسية نفسها. والواقع أن سياسة بونغو الداخلية والخارجية وتحكمه في اقتصاد هذا البلد الإفريقي الغني، قد مهَّدت الطريق أمام ابنه ليتسلم الحكم بعده، ويسير على خُطى والده(9).
 
وقد ظلت المعارضة السياسية في الغابون ضعيفة الأداء، بعيدة من القدرة على إضعاف حكم آل بونغو أو حتى إزاحتهم عن السلطة، ولم تدخل قطُّ في منازلة انتخابية ضد الرئيس عمر بونغو أو ابنه علي بونغو إلا فشلت نتيجة المال السياسي الذي كان يمنح بسخاء في حملات أسرة آل بونغو التي تمارس كغيرها من الأنظمة الإفريقية سياسة ترغيب الناخبين وترهيبهم، ويتم شراء الولاءات القبلية واستقطاب رجال الأعمال الطامعين في المكاسب والمنافع؛ مما يعني إفراغ أي انتخابات من معناها التنافسي وحسمها لصالح مرشحي النظام.
 
ولعل الانتخابات الرئاسية الأخيرة قد شكلت تطورًا ملحوظًا من حيث نوعية اللاعبين السياسيين في الغابون، حيث دخل على الساحة لاعب من نوع خاص وهو وزير الخارجية السابق، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي السابق جان بينغ، من أب صيني (رجل أعمال) وأم غابونية، ثم صار أحد أعمدة نظام الرئيس السابق عمر بونغو ومن المقربين منه لمدة عشر سنوات، فتولى مناصب وزارية مختلفة كالخارجية، وكان مدير ديوان الرئيس عمر بونغو لفترة. وقد توطدت علاقة جان بينغ بأسرة آل بونغو، حيث تزوج باسكالين ابنة الرئيس عمر بونغو.
 
ولعل السبب الرئيس في توجُّه جان بينغ نحو المعارضة إدراكه للتبرُّم الذي بات يطبع الشارع الغابوني من أسرة آل بونغو، وتطلُّع هذا الشارع لبديل عن هذه الأسرة. ثم إنَّ رفضَ صهرِهِ الرئيس الحالي علي بونغو سنة 2012 لترشيحه لولاية ثانية قد تسمح له بأن يظل في رئاسة مفوضية الاتحاد الإفريقي ربما كان من بين الأسباب التي جعلته يقلب ظَهْر الْمِجَنِّ لنظام طالما أيده ووقف معه، فتحول من موالٍ ومناصر إلى معارض ومنافس.
 
وجدت المعارضة الغابونية التي طالما فكَّك نظام أسرة آل بونغو أوصالها في جان بينغ ضالتها المنشودة، فهو سياسي مخضرم، وكان جزءًا من نظام آل بونغو، وله علاقات قوية داخلية وخارجية، ويمكن من خلاله اكتساب الكثير من الأصوات، خصوصًا أنه ليس من المعارضة الراديكالية التي يخشاها لوبيات المصالح والفساد المتحكمة في الدولة وإدارتها. ولعل المعارضة الغابونية رأت أن جان بينغ في النهاية ليس من آل بونغو، وبالتالي فإنَّ نجاحه في الانتخابات سيضع حدًّا لحكم هذه الأسرة التي حكمت الغابون حتى فترة تناهز نصف قرن. مع أن المعارضة تدرك تمامًا أن الرهان على جان بينغ في حالة نجاحه لا يعني شيئًا كثيرًا، فلن يكون هناك فرق يُذكر بينه وبين أسرة آل بونغو، خصوصًا فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التي من شأنها تغيير أوضاع الشعب الصعبة. فعلي بونغو وجان بينغ كلاهما من نفس المدرسة السياسية ونفس الطريقة في الحكم. لكن كسر الرتابة السياسية وإزاحة أسرة آل بونغو في استحقاق رئاسي حاسم كان حلم المعارضة التي ظنت أنه سيتحقق بوقوفها وراء بينغ(10).
فرنسا والصين: استراتيجية النفوذ في الغابون
 
كون مرشح المعارضة الغابونية للرئاسيات ابنًا لرجل أعمال صيني له أكثر من دلالة سياسية واقتصادية متعلقة بالوضع الغابوني الراهن، وليس من الغريب أن تذهب بعض التقارير الإعلامية المهتمة بإفريقيا في السنوات الماضية إلى القول: إن جان بينغ هو رجل الصين في القارة الإفريقية؛ حيث إنه لما كان وزير خارجية بلاده في عهد الرئيس الراحل عمر بونغو قاد محادثات مع شركات نفطية صينية من أجل الاستثمار في الغابون(11)، كما قام في نفس الفترة بالتفاوض مع الصينيين حول استغلال خام الحديد المعروف بمشروع بيلينغا الذي فازت به إحدى الشركات الصينية(12).
 
وبيلينغا مدينة غابونية في قلب منطقة توجد بها خامات هائلة من الحديد، وتمتد تلك المنطقة إلى حدود دولتي الكاميرون وجمهورية الكونغو المجاورتين، ويقدر احتياطي بيلينغا من الحديد بمليار طن(13). وقد تولت شركة معادن بيلينغا "كومبينل" العملاقة، وهي فرع من الشركة الصينية CMEC، استغلال هذا المنجم(14).
 
ومن الواضح أن العلاقات الصينية الغابونية تطوَّرت بشكل مستمر حتى في غياب جان بينغ عن الحكومة الغابونية، بل إنها عرفت انفتاحًا واسعًا في عهد الرئيس علي بونغو وقد عزَّزته الاستثمارات الصينية الكثيرة في هذا البلد. ويبقى السؤال المطروح: هل كان النفوذ الصيني في الغابون على حساب النفوذ الفرنسي؟ وهل يمكن لبكين أن تصل علاقتها بليبرفيل إلى درجة تُقلِق باريس صاحبة الكلمة العليا في مستعمرتها السابقة الغابون؟
 
الواقع أن العلاقات الاستثمارية المتنوعة بين الغابون والصين عادت بالفائدة على هذا البلد الإفريقي؛ حيث تعزَّز الموقف التفاوضي للرئيس علي بونغو مع الاتحاد الأوروبي عمومًا ومع فرنسا بشكل خاص، وأصبحت علاقته مع الصين ورقة رابحة في التأثير على المستثمر الأوروبي، وجعله يخشى على مصالحه القديمة والعميقة من الهجمة الصينية على إفريقيا عمومًا، وعلى الغابون بشكل خاص.
 
إن التطور الذي عرفته العلاقات الاستثمارية الصينية الغابونية قبل ثلاث سنوات كان له تأثير عميق على سياسة البلاد تجاه الدول ذات النفوذ في المنطقة، كما جعل بعض المراقبين يتساءلون: كيف استطاعت بكين تحييد باريس في هذا البلد الإفريقي الغني؟ لقد شهدت الصادرات الفرنسية نحو الغابون انخفاضًا حادًّا؛ ففي سنة 2013 كانت تلك الصادرات تُقدَّر بمبلغ 728 مليون يورو، أما في سنة 2014 فانحطَّت إلى مبلغ 629 مليون يورو. ومع أن فرنسا لا تزال الشريك التجاري الأول للغابون، غير أن حصتها في السوق انخفضت لصالح الصين، وهي الشريك الثالث لهذا البلد(15).
 
لقد حاولت باريس في السنوات الثلاث الماضية أن تدخل في تنافس محموم مع بكين في الغابون، فحرَّكت فرنسا العديد من الخيوط التي بيدها؛ إذ من المعلوم أن النُّخبة الحاكمة في الغابون تخرَّجت -في أغلبها- في الجامعات والمعاهد الفرنسية، بما في ذلك اللاعبان الرئيسان علي بونغو وجان بينغ، وفرنسا ما زالت تتحكم في لعبة الاستقرار والتوازنات بمنطقة إفريقيا الفرانكفونية بشكل عام. وتُتَّهم باريس بالوقوف وراء مضايقات شركة "كومبينل" والشكوى منها أمام القضاء الغابوني حتى فقدت ترخيصها، ومن ثَمَّ كان ذلك ضربة قوية للاستثمارات الصينية بالغابون(16).
 
ولم يقتصر الدور الفرنسي المؤثر في الغابون على الضغط على الصين واستثماراتها في الغابون، بل إن باريس وجهت رسائل واضحة للرئيس علي بونغو توحي بعدم رضاها عن تصرفات النظام في ليبرفيل. ومن بين تلك الرسائل تصرف الأمن الفرنسي تجاه عضو بارز في النظام الغابوني حيث ألقت السلطات الأمنية الفرنسية، وخصوصًا المكتب المركزي لمحاربة الفساد المالي والجرائم الضريبية (OCLCLIF)، القبضَ في مطار شارل ديغول في 3 أغسطس/آب 2015 على الرجل القوي في النظام الغابوني ميكسان آكرومبسي، وهو مدير ديوان الرئيس علي بونغو، في الوقت الذي كان يغادر فيه العاصمة الفرنسية بتهمة تبييض الأموال(17). وفضلا عن ذلك أثار الإعلام الفرنسي مسألة نسب الرئيس علي بونغو، وهل هو ابن حقيقي لعمر بونغو أم أنه ابن بالتبني تم العثور عليه من طرف الرئيس عمر بونغو ضمن الأطفال النيجيريين الذين شردتهم حرب إقليم بيافرا بجنوب شرق نيجيريا في ستينات القرن الماضي. فقد ذهب الصحفي الفرنسي بيير بيان في كتابه "قضايا إفريقية جديدة" الصادر في أكتوبر /تشرين أول 2014 إلى شهادة ميلاد علي بونغو تم تزويرها وأنه طفل نيجيري. لقد وجدت المعارضة الغابونية ضالتها المنشودة في هذا القضية فنشرتها في مواقعها الإلكترونية وتردد على لسان خطبائها خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة الحديث المستفيض عن أن المرشح علي بونغو لا يمت بصلة لآل بونغو، بل ليس غابونيا أصلا، وهذا يعني دستوريا أن ترشحه لاغ بحكم أن الدستور الغابوني لا يسمح لمن تم تبنيه بالترشح للرئاسة. وقد طالبت المعارضة الرئيس علي بونغو بإثبات نسبه وصارت القضية قضية رأي عام منشرة في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة(18).
 
على أن عودة سريعة لتاريخ الغابون وفرنسا، يتبين باريس ظلت حاضرة في الشأن السياسي الغابوني، فما إن وقعت محاولة انقلاب عسكرية على أول رئيس في عهد الاستقلال ليون امبا، حتى أعادته فرنسا بالقوَّة. وقد ظل الحضور الفرنسي جليًّا وقويًّا مع أسرة آل بونغو. والغابون -كما هو معلوم- جزء من الدول الأربعة عشر التي ما زالت تستعمل الفرنك الإفريقي المرتبط بالبنك المركزي الفرنسي، وهذا يعني أن تبعية الغابون لفرنسا أمر له أكثر من سبب(19).
 
وبسبب انخفاض قيمة الفرنك الإفريقي فقد عانت الغابون -كغيرها من الدول التي تتداول هذه العملة- من عجز مالي، وهو ما أدى بفرنسا وبدعم من صندوق النقد الدولي بمنح الغابون قروضًا ومساعدات بشرط التزام ليبرفيل بتنفيذ إجراءات اقتصادية هيكلية، وهو أمر كرَّس ويكرِّس تبعية الاقتصاد الغابوني لفرنسا. ومن المعلوم أن لفرنسا وجودًا عسكريًّا تقليديًّا في هذا البلد، ويعود ذلك الوجود لاستقلال البلاد بداية ستينات القرن الماضي. وفي سنة 2010 كان عدد الجنود الفرنسيين بمعسكر الجنرال ديغول قرب مطار ليبرفيل يبلغ 850 جنديًّا، لكنه انخفض بعد ذلك ليصل إلى 450 جنديًّا، ومع ما يكتنف الوجود العسكري الفرنسي في الغابون من سرية إلا أن المعلن عنه أن هؤلاء الجنود منوطٌ بهم رسميًّا مهام التدريب والتعاون، في حين يذهب الكثير من التقارير إلى أن فرنسا لا يمكن أن تفرِّط عسكريًّا في الغابون التي تمثِّل قلب إفريقيا، ومن ثَمَّ لابد من وجود فرنسي عسكري دائم في هذا البلد؛ لتنظيم إجلاء الرعايا الفرنسيين في بلد معرَّض كغيره من بلدان المنطقة للاضطرابات والصراعات(20).
 
ولا شك أن حجم المصالح الفرنسية بالغابون يجعل أي حدث في هذا البلد، لاسيما إذا كان انتخابات رئاسية، أمرًا لا يمكن أن يمر دون مراقبة ومتابعة فرنسية؛ ولذلك فإنَّ هذه الانتخابات وما انكشفت عنه من انقسام داخل المجتمع الغابوني، ومن ظهور فاعل للشباب المستاء والعاطل عن العمل في المظاهرات والاحتجاجات على النتيجة المعلنة للاقتراع، أمرٌ يقلق الدول الكبرى ذات النفوذ في هذا البلد الغني؛ فحرصها على أن تبقى بعيدة عن الاضطرابات الاجتماعية أكثر منه على أن يتطور البلد سياسيًّا ويعرف تداول السلطة. وسيظل التفاعل بين التعقيدات الداخلية للمشهد السياسي والحسابات والتوازنات الدقيقة للقوى الكبرى المهتمة بالغابون، سمةً من سمات أزمة الغابون.
مستقبل الغابون في ظل خيارات صعبة
 

ليس هنالك خلاف في أهمية الموقف الفرنسي مما يجري في الغابون منذ نهاية شهر أغسطس/آب الماضي. لقد طلب وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرو بإعادة الفرز، وأن يتم تقديم النتائج مكتبًا مكتبًا، وقد ربطت فرنسا موقفها من هذه الأزمة من موقف حلفائها في الاتحاد الأوروبي، الذين طالبوا هم أيضًا بإعادة فرز المكاتب التي هناك تشكيك في فرزها. وهو ما جعل بعض التحليلات تذهب إلى أن باريس تريد إزاحة الرئيس علي بونغو، وأنها تجد في مرشح المعارضة جان بينغ حليفها المستقبلي في الغابون. غير أن العودة إلى فرز النتائج مكتبا مكتبا الذي تطالب به الحكومة الفرنسية والذي يمكن أن يؤدي إلى زهور نتيجة جديدة حل مستبعد، خصوصًا أن المرشح الفائز علي بونغو صرَّح بعدم إمكانية فرز الانتخابات مكتبًا مكتبًا بذريعة أنه إجراء غير دستوري(21).

ومن المستبعد في اعتقادي على فرنسا مهما تفاقمت الأزمة الغابونية أن تتدخل عسكريًّا في هذا البلد؛ لا لأنها لا تريد أن تعيد فكرة "فرانس آفريك" في الغابون التي تعني في النهاية الحفاظ على مصالح فرنسا الاقتصادية ولو عن طريق التدخل العسكري كما حدث في كوت ديفوار وفي إفريقيا الوسطى وغيرهما، لكن لأن فرنسا أصبحت تربط تدخلها العسكري في الخارج بقرار من مجلس الأمن، وهو أمر ليس مطروحًا الآن؛ إذ التدخل الفرنسي العسكري لا يمكن أن يتم إلا بضوء أخضر من الأمم المتحدة.

والواضح أن الطريقة الحازمة التي تعامل بها المرشح الفائز علي بونغو، وتجنيده للشرطة والجيش لمواجهة المظاهرات والاحتجاجات بقوَّة وصرامة ستحسم الوضع الداخلي لصالح نظامه، وبالتالي سيجعله من ناحية في غنى عن أي تدخل عسكري أجنبي، كما سيجعله -وهذا هو المهم- الرجل القوي الذي بإمكان فرنسا وغيرها من الدول ذات النفوذ في الغابون الاعتماد عليه في الحفاظ على مصالحها. ففرنسا في النهاية إذا خُيِّرت بين الحفاظ على مصالحها وبين تحقيق الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة في الغابون أو في غيرها من مستعمراتها الإفريقية السابقة، فستختار بطبيعة الحال مصالحها.

ولعل ما حدث في رئاسيات الكونغو في مارس/آذار 2016 من فوز الرئيس المنتهية ولايته ديني ساسو انغيسو بنسبة 60% من الأصوات في انتخابات عرفت تشكيكًا من طرف مرشحي المعارضة، وما حدث كذلك في تشاد في إبريل/نيسان 2016 من الفوز المشكك فيه أيضا للرئيس المنتهية ولايته إدريس ديبي إتنو بنسبة 61,56%، وغض فرنسا الطرف عن كل ذلك يعطينا صورة أن الانتخابات في إفريقيا عبارة

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122
جميع الحقوق محفوظة لـ وكالة الرائد © 2009-2024