الأستاذ محمدٌ ولد إشدو لـ"العربي الجديد": موريتانيا فتحت باب ثورات الربيع العربي

2015-05-25 07:09:00

تاريخه النضالي جعله أحد أبرز المحامين في موريتانيا، لكن الأمر كلّفه مواجهة حملات شرسة على خلفيّة مواقفه الجريئة والمناصرة لبعض المتهمين في قضايا أثارت جدالاً في الشارع الموريتاني، وعلى سبيل المثال قضية كاتب المقال المسيء للنبي محمد. هو محمدٌ ولد إشدو الذي جمع بين السياسة والأدب والمحاماة، وخصص حياته لنصرة قضايا ضعفاء بلاده والمَقصيّين فيها وللوقوف إلى جانب المظلومين. وفي ما يأتي، نص حديث خصّ المناضل الموريتاني "العربي الجديد" به.

.



كيف ترى مستوى الحريات في البلاد؟

للحديث عن مستوى الحريات في موريتانيا يجب التذكير بادئ ذي بدأ بأن الموريتانيين هم أول من فجر - على طريقتهم- الثورة على القهر والهدر والطغيان يوم كسروا في 3 أغسطس 2005 أضعف حلقات منظومة القهر الأمريكية الصهيونية الرجعية التي سحقت العرب والمسلمين منذ معاهدة كامب ديفد؛ فأيقظوا بفعلهم المفاجئ شعوب المنطقة، وبرهنوا لها على قوة الشعوب ووهن حلف العدو وعدم جدوى الاحتماء في كنفه. ثم قاموا بإصلاحات كبرى تمثلت - على سبيل المثال- في: تحرير سجناء الرأي وإغلاق السجون، وإطلاق الحريات العامة إلى أبعد الحدود، وكنس معظم القوانين القمعية كالمادة 104 التي أضيفت إلى الدستور لتشريع الاحتفاظ بجميع القوانين القمعية الموروثة عن الحقبة العسكرية الاستثنائية، والمادة 11 من قانون الصحافة التي تجيز مصادرة ووقف الصحف بجرة قلم، وتقليص المأمورية الرئاسية إلى خمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، وحظر تعديل الدستور في مادته المتعلقة بالمأمورية، وإقامة مؤسسة للمعارضة، وإزاحة مدن الصفيح، وتبني التمييز الإيجابي اتجاه النساء والفئات الفقيرة في المجتمع، ومحاربة الفساد والبطالة ونهب الثروة السمكية واختلاس المال العام، وإلغاء عقوبة الحبس من قانون حرية الصحافة.. وطرد سفارة إسرائيل صاغرة من بلادهم؛ فكان علمها المشؤوم الذي رفرف زمنا في موريتانيا أول علم إسرائيلي يطوى من بلد عربي نشر فيه.

قد تتساءلين - سيدتي – عن علاقة بعض ما تطرقت إليه بمستوى الحريات العامة؟ وهنا أؤكد مسألتين أساسيتين:

أولاهما أن الحرية والديمقراطية ليستا هدفا؛ بل وسيلة لبلوغ الشرط الإنساني الكريم والتمتع بحق الحياة من رزق وسكن وملبس ودواء وتعليم. وبدون ذلك لا يكون للحرية والديمقراطية معنى. لقد صدق قادة موريتانيا الحاليون - رغم أنه ما يزال هناك كثير مما يجب عليهم عمله - عندما قرنوا إطلاق الحريات وحمايتها بالقضاء على مدن الصفيح، وتوفير قطع الأرض، وتوفير الماء الصالح للشرب، وبناء وتجهيز المستشفيات والمدارس والجامعات، والطرق، وتأسيس شركة للإسكان. وصدق كذلك رئيس السنغال المجاور حين صرح أمس بأن إرساء الديمقراطية يمر عبر الحصول على سكن لائق.

وثانيتهما أن من شروط تحسن مستوى الحريات العامة والديمقراطية كبح "حرية" أعداء الحرية والديمقراطية. وهم أولئك الذين يسعون في الأرض فسادا ويعملون على زعزعة أمن البلاد وتخريب السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والاقتصاد.. فحرية هؤلاء الأعداء المتلونين تنتهي عندما تبدأ حدود حرية الشعب أو ينال من حرية الوطن. ومما لا شك فيه أن سوء استغلال الحرية وانتشار الفوضى وتكاثر الأدعياء في مختلف المجالات: في الصحافة، في الأحزاب، في النقابات، في منظمات المجتمع المدني، حيث اختلط الحابل بالنابل والطالح بالصالح والغث بالسمين وترتع عصابات الطابور الخامس يشكل خطرا حقيقيا على الحريات وعلى مسيرة الإصلاح في البلاد. وما لم تتم غربلة وتصفية وتصحيح هذه المجالات الأساسية، فلن تنهض شروط قيام مؤسسات جمهورية قادرة على حماية وصيانة وتنمية هذه المكاسب الثمينة التي رفعت رؤوسنا وألهمت جماهير عربية وإفريقية واسعة كيف تتحرك وكيف تبني وكيف تنتصر.

 

في القانون الموريتاني هناك أحكام متجاوزة كقطع اليد والرجم والجلد، كيف يتم تطوير منظومة القوانين والأحكام في موريتانيا؟

هذه الأحكام يزيد عمرها على ثلاثة عقود وقد تم سنها في فترة عسكرية خضع الحاكم فيها لإملاءات تيارات متزمتة كان في أمس الحاجة إلى دعمها في مواجهة الغضب الشعبي الجارف. وبتجاوز ذلك الحاكم وأمثاله وتلك التيارات تم تجاوز تلك الأحكام، ووقف تطبيقها. وسوف يتم تطوير وإصلاح منظومة القوانين والأحكام، وملاءمتها مع الواقع المعيش في البلد، ومع المصالح المرسلة لا محالة. خاصة إذا علمنا أن الوسطية والاعتدال والتسامح هي منهج المسلمين الموريتانيين دون إفراط أو تفريط. وللوسطية الموريتانية أئمة راسخون في العلم ورثوها عمن شرعوها، فرسخوها وحصنوها وبثوها، كالإمامين الراحلين بداه ولد البوصيري ومحمد سالم ولد عدود رحمهما الله، والإمام الشيخ عبد الله بن بيه أطال الله بقاءه الذي اعتزل الفتن وانتزعت آراؤه النيرة إعجاب أساطين الغرب والشرق معا.

 

لماذا لم يعد الإعدام ينفذ في موريتانيا؟ وهل هناك اتجاه لإلغاء هذه العقوبة؟

نعم. هناك اتجاه لإلغاء عقوبة الإعدام. وإن كنت شخصيا - رغم مناصرتي لهذا الاتجاه، لأسباب من بينها ضعف حصافة المنظومة القضائية الموريتانية وعدم عصمتها من الخطأ - أرى الاحتفاظ بتنفيذ عقوبة الإعدام في ثلاثة مجالات هي: جرائم الإرهاب، تجارة المخدرات، الاغتصاب.

 

تسارع للترافع عن المظلومين والمتهمين في قضايا "الرأي" ما هي أشهر القضايا التي رافعت فيها؟ وما هي المواقف التي لن تنساها وحدثت داخل المحاكم؟

نعم.. كان ذلك قبل انتفاضة الشعب والجيش التي تحدثت عنها في البداية. وكانت تجري اعتقالات ومحاكمات دورية تأتي على الجميع كفصول السنة الأربعة. لحد أن الكاتب المتميز حبيب ولد محفوظ رحمه الله قال إن كل مواطن ينتظر دوره من السجن والمحاكمة: البعثيون، الناصريون، القوميون الزنوج، زعماء أحزاب المعارضة، بعض الحقوقيين، الإسلاميون، وقادة انقلاب 8 يونيو، والمترشحون لرئاسيات 1997 و2003. لم أكن وحيدا؛ بل كانت معي كوكبة من خيرة المحامين الموريتانيين قيل عنهم يومها إنهم كالجوهرة المطمورة في الوحل. الناصريون الذين دافعنا عنهم كان عددهم قليلا وبرئوا. البعثيون كانوا بالعشرات وانتزعنا لهم البراءة أيضا في نهاية المطاف أكثر من مرة. وكذلك الرئيس أحمد ولد داداه والوزير محمذ ولد باباه.. لم يرتكبا ذنبا سوى التنديد بالعلاقات مع إسرائيل والمطالبة بالتحقيق في طمر نفاياتها في موريتانيا الذي تحدثت عنه تقارير وتسريبات عديدة، ومع ذلك، ورغم استماتتنا كدفاع لإنقاذهما من السجن، فقد كانا معرضين للإدانة لولا أن قيض لنا الله قاضيا فاضلا (يوجد اليوم بالإمارات) أقسم رغم جميع الضغوط التي مورست ضده أن لا يحكم بغير قناعته ولو قطعت يمينه. أما الحقوقيون وبقية زعماء الأحزاب والمترشحون للرئاسيات وقادة انقلاب 8 يونيو والإسلاميون فقد خضنا في سبيل الدفاع عنهم معارك حامية كانت أبرزها محاكمة الرئيس اشبيه ولد الشيخ ماء العينين في مدينة العيون، ومحاكمة الرئيس محمد خونه ولد هيداله وصحبه في نواكشوط، ومحاكمة قادة الانقلاب والرؤساء أحمد ولد داداه ومحمد خونه ولد هيدالة والشيخ ولد حرمه ولد بابانه في وادي الناقة. وهذه المحاكمة كانت الأصعب والأطول، فقد دامت 75 يوما وليلة في ثكنة عسكرية تجرعنا فيها الأمرين، وكنا نحارب على ثلاث جبهات هي: المحكمة والنيابة اللتان كان علينا إلزامهما باحترام القانون في كل صغيرة وكبيرة. والدرك الذي يجعل ولوجنا إلى الثكنة واتصالنا بموكلينا ومثولنا أمام المحكمة جحيما من التعقيدات التي لا تطاق، والمكتب الذي نصبته السلطة بواسطة عملية تزوير وغش على هيئة المحامين؛ والذي يتظاهر بالدفاع عن بعض المتهمين، وقليلون منهم الذين يثقون فيه، وبتنظيم علاقاتنا مع المحكمة، ويعمل مع النيابة والمحكمة والدرك في الخفاء ضدنا وضد المتهمين. ومع ذلك فقد نجحنا نجاحا باهراعندما حولنا المحاكمة من محاكمة انقلابيين أحدثوا فوضى وخرابا وجرى بسبب حركتهم سفك دماء إلى محاكمة نظام فاسد يضطهد شعبه ويوصد في وجهه آفاق التقدم والحياة. وبذلك قمنا نحن والرأي العام الوطني والدولي الذي استطعنا تعبئته، وقد استقدمنا زملاء من السنغال ومالي وفرنسا، بفرض معادلة صعبة على النظام بحيث إن أعدم سقط، وإن لم يعدم سقط. ولم يعدم فسقط.

وإني لأتذكر الكثير من الوقائع التي لا تنسى من يوميات هذه المحاكمات. لكني سأتوقف عند ثلاث منها فقط:

الواقعة الأولى: لم تكن أول محاكمة صعبة أكتوي بنيرانها وأصلى لهيبها محاكمة سياسية؛ بل كانت تتعلق بجريمة قتل حاول أولياء الدم فيها بدعم من الدولة لأسباب تافهة، الإيقاع ببرآء. وقد بلغ الجموح بوكيل الجمهورية عندما بدأت حججه تتهاوى كالورق في مهب الريح أن هاجم الدفاع، فكلت له الصاع صاعين. وفي لحظة من لحظات الوطيس قال: سيدي الرئيس، إن محامي الدفاع من أصحاب السوابق ولا يحق له أن يكون محاميا ويرافع أمام المحاكم. فرددت عليه فورا بالقول: سيدي الرئيس إن السوابق التي ذكرها السيد ممثل النيابة صحيحة، ولكنها لا تتعلق بالسرقة أو اختلاس المال العام أو الرشوة.. بل تتعلق بمقارعة الاستعمار؛ ولولاها لما تم استقلال موريتانيا، ولما أممت صناعة الحديد فيها، ولما أنشئت العملة ورسمت اللغة العربية، أو كان ممثل النيابة ولا أنتم هنا؛ بل لكان قضاة المساعدة الفرنسية ما يزالون على هذه الكراسي. وفوق هذا وذاك، فإن تلك السوابق موضوع قانون عفو عام تقول مادته الثانية إنه يحظر على أي قاض أو عون قضائي أن يثيرها أو يتحدث عنها، وقد وقع السيد وكيل الجمهورية في ذلك الحظر وخالف القانون فوجب عقابه. ولا يعذر أحد بجهل القانون أحرى إذا كان وكيل جمهورية. كان وقع الرد قاسيا ومفاجئا ومباشرا، فما كان من السيد الوكيل إلا أن خلع بدلته وانسحب. فطلبت على الفور شطب القضية واعتبار انسحاب ممثل الدعوة العمومية تخليا عنها. علم المدعي العام بما حدث فاستشاط غيظا وأمر وكيله بالرجوع إلى القاعة ومعالجة ما أفسد.

ثانيا: في محاكمة زعماء الانقلاب وقادة المعارضة بوادي الناقة كاد أحد كبار المتهمين أن ينهار تحت إغراء بعض وسطاء النظام من المحامين، فصرح أثناء التحقيق أمام قاضي التحقيق بأن قادة المعارضة تآمروا معه وأمدوه بالمال. وكان هذا هو الهدف الأسمى للنظام الذي يسعى للتخلص من معارضته بهذه الطريقة. لقد كان الخطر الذي يتهدد زعماء المعارضة فادحا.. فهم معرضون بموجب ذلك التصريح للإعدام أو المؤبد. وكان أحد محامي الدفاع متواطئا مع سلطة الاتهام، وهو من أغرى المتهم بمثل هذا التصريح ويشارك في التحقيق معنا منتحلا صفة الدفاع. كانت صفحة المحضر قد امتلأت قبل أن يثبت فيها هذا التصريح الخطير وسلمت إلينا للتوقيع، وقبل أن يرتد بصر القاضي إليه، افتعل زميلي الأستاذ يربه ولد أحمد صالح مشاجرة حامية مع المحامي الآخر والقاضي أثارت هرجا ومرجا وسببت توقف التحقيق، فما كان مني إلا أن كتبت في جذر الصفحة "وكانت آخر كلمة من هذه الصفحة هي كذا". ووقعت. ولما أخرج المتهم واجهته بشراسة قائلا: إنهم يكذبون عليك ولن يبرئوك ويريدون توريطك والقضاء على مستقبلك السياسي باعتراف كاذب منك ضد المعارضة التي هي الذراع الذي سيحميك، فلا تطعهم. تدارك نفسك وتراجع، وإلا فستهلك. لقد أثرت كلماتي في الرجل تأثيرا بالغا. وانتهت المشاجرة وعدنا إلى التحقيق. فقال القاضي للمتهم: لنبدأ من حيث انتهينا: قلت لي إن أحمد ولد داداه ومحمد خونه ولد هيداله مدوكم بمئات آلاف الدولارات. هل لك أن تحدد لي المبالغ بالضبط بعد أن حددت الأسماء؟ فرد عليه المتهم قائلا: لا لم أقل شيئا من هذا القبيل. صاح القاضي وهو واثق من نفسه: لقد قلته وكتب. واختطف الورقة من يد الكاتب فإدا بها خالية من تصريح المتهم وفي نهايتها بخطي وتوقيعي "وكانت آخر كلمة من هذه الصفحة هي كذا" فاستشاط غضبا، وظل المتهم مصرا على الإنكار. وفشلت الخطة فشلا ذريعا. وبرئ قادة المعارضة.

ثالثا: كنت أمام قصر العدالة في تجمهر كبير لأصدقاء وزملاء وتلاميذ أستاذ متهم بقتل أمه انتدبتني المحكمة للدفاع عنه ولم توجد بينة كافية ضده، وكان مثالا في حسن الخلق والسلوك والبر بأمه، وكان أمره محيرا. وفجأة جاء شيخ ذو لحية كثة يشق الصفوف نحوي بصعوبة ولما صار في مواجهتي قال لي: يا ولد إشدو أعوذ بالله من حالك، تدافع عمن قتل أمه وأنت مسلم. فقلت له على الفور: أيها الشيخ الوقور أعوذ بالله من حالك كنت حاضرا عندما قتل الرجل أمه وكتمت شهادة الله خلال هذه المدة الطويلة التي كانت العدالة فيها تبحث عن بينة؛ أم نسيت قول الله عز وجل: {ومن يكتمها فإنه آثم قلبه}. عندها نكص الشيخ هاربا وهو يقول: والله لم أك حاضرا عندما قتل أمه ولا علم لي بالموضوع ولا أشهد على شيء منه. فضحك الجمهور.



 أين وصلت قضية معتقلي غوانتانامو الموريتانيين؟

altكانوا ثلاثة، فأطلق سراح أحدهم، وبقي اثنان رغم جميع الجهود المبذولة من طرف ذويهم ومحاميهم وهيئات المجتمع المدني الناشطة في سبيل حريتهم وتدخل الدولة الموريتانية عن طريق دبلوماسيتها الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية في مؤتمره الصحفي الأخير. وفي رأيي أن أحدهما - وهو المهندس محمدو ولد صلاحي- قد تكفل بالباقي عندما أصدر أخيرا كتابه "يوميات غوانتنامو" الذي استقبله العالم بكثير من التقبل والاهتمام. ذلك "أنه بخروج ما تم خروجه مشوها من يوميات غوانتنامو فإن محمدو ولد صلاحي يكون قد تحرر نهائيا وانتصر، ومعه كافة معذبي غوانتنامو. فهدف الجلاد هو هزيمة الضحية وقتل روحه المعنوية بين جدران الزنزانة الأربعة، دون شاهد أو مشهود. وما إن يعجز الجلاد عن بلوغ هدفه، وتتسرب إلى العالم الخارجي آيات فشله ونذالته وهمجيته في كتاب أو صور أو شريط، حتى تعلن هزيمته على رؤوس الأشهاد، ويفتضح ويلعن.. ويبقى الضحية شامخا منتصرا، حيا كان أو ميتا. ويجري أغرب تبادل للأدوار بين الطرفين حيث يتحرر الضحية من سجنه وضعفه ويصبح بطلا؛ بينما يصبح الجلاد سجين عجزه وفشله وتتوجه إليه ملايين أصابع الاتهام".  كما قلته في ندوة تضامنية بالمناسبة.

 

هل الضغوط الشعبية هي التي دفعتك للتراجع عن الدفاع عن كاتب المقال المسيء للنبي؟

كلا.. بل ضغوط حلف عفوي أبرم بليل بين بعض فصائل المخابرات والحركة الإسلامية. لقد ظن الإسلاميون بتحريض واختراق ممن يسمون أنفسهم "أحباب الرسول" وهم جماعة تنظمها وتقودها مخابرات داخلية وخارجية، أنهم قادرون في حشدهم "الربيعي" على تعبئة الشارع ضد النظام، وأن يجعلوا من صاحب المقال المسيء "بوعزيزي" يوصلهم إلى السلطة. وبما أنني حذرت في مقال كتبته عند نشر المقال المسيء تحت عنوان "حتى لا تكون فتنة" من استغلال الحادثة، واطلعت على ملف المعني بعد اعتقاله وقلت في مؤتمر صحفي عقدته في مدينة نواذيبو إن الرجل تاب ومن تاب تاب الله عليه. وإن القانون الموريتاني صريح في وجوب التأكد من توبته وإطلاق سراحه بعد إجراءات محددة، وإنه لا يحتاج إلى مؤازرتي، وإني لن أدافع عنه.. فقد رأوا أني أشكل خطرا عليهم لأني سوف أضيع الفرصة وأقلل من أهميتها. والغريب في الأمر أن التيار الإسلامي لم يركز علي ويسخر جميع قواه الدعائية ضدي إلا بعد أن عقدت مؤتمري الصحفي وأعلنت أني لن أدافع عن بوعزيزهم. أما "أحباب الرسول" ومن يوجهونهم فقد كانوا بحاجة إلى الوصول إلى أعماق التيار الاسلامي وإفشال تحركه. بينما يعتبرونني أنا أحد أعدائهم الأساسيين ولا بأس في توجيه الحربة ضدي لتوطيد الحلف حول عدو ملموس، والقضاء على أحد ألد أعداء الفساد. ولم يكن ليتفكك الحلف لولا أنه في ذروة نشاط مشترك وبعد مهرجان حاشد دعا الإسلاميون إلى التوجه إلى القصر الرئاسي واحتلاله، ودعت المخابرات جماعتها إلى التوجه إلى ساحة ابن عباس والاعتصام فيها والتنديد بولد إشدو بعد أن عرفوا ما يريدون معرفته عن الاسلاميين. واحتدم الخلاف وكانت نهاية زواج المتعة ذلك غداة حادثة تمزيق المصحف المدبرة من طرف بعض بؤر المخابرات، حيث أعلن الإسلاميون الثورة لساعات، ونكص "الأحباب" يدعمون قوى الأمن.

لم يكن هناك ضغط شعبي؛ بل ضغط بوليسي غوغائي سياسي جاء بعد أن أعلنتُ عن عدم دفاعي عن المتهم، حتى لا تفوت الفرصة. وقد اعتذر لي بعض جماعة الإخوان وزارني بعض قادتها مشكورين. ولكن الغريب حقا في هذه الفتنة أن ثلاث جهات غابت كليا عن الظهور إلى جانبي وقد هددت بالقتل وانتهكت كافة حقوقي؛ وهي: الهيئة الوطنية للمحامين التي يقع على كاهلها عبء الدفاع عن الدفاع. والسلطة السياسية الوطنية التي تقع على عاتقها حماية الحريات، وخاصة حرية الدفاع؛ والتي كان من المفروض أيضا أن تحمي من ناصرها ضد الفساد والنكوص والفتنة، ووقف معها في أيام الشدة، ثم جميع الذين دافعت عنهم - على كثرتهم- لم يتحرك منهم أحد ولم ينبسوا ببنت شفة! بل كان بعضهم حاضرا في تلك المهرجانات.

 

دافعت عن المسترقين؟ ما رأيك بقضية العبودية وما يثار حولها من نقاش؟

لم يكن دفاعي عن المسترقين وليد اليوم، بل كان من يوم كان يوجد رق حقيقي منتشر في المجتمع البدوي في بداية الستينات. لقد تبنت حركة الكادحين التي أنتمي إليها محاربة الرق، واستطاعت القضاء عليه بفضل نشر الوعي بين الأرقاء وأسيادهم (وخاصة الشباب) وقيام بؤر صناعية في البلاد مثل شركات استخراج المناجم وتعبيد الطرق والبناء تستوعب الفارين من جحيم الرق إلى المدينة، وتواطؤ سلطات الدولة المحبذة للحرية، والجفاف الذي ضرب المنطقة فحطم وسائل وعلاقات الإنتاج فيها، وأرغم الغالبية (عبيدا وأسيادا) على النزوح إلى المدينة وإعمار مدن الصفيح.

أما ما يجري الحديث عنه اليوم وتدبج الخطب وتنظم المسيرات وتسن القوانين فهو - بغض النظر عن بعض الجهود الاجتماعية الإيجابية التي يقوم بها السيد ببكر ولد مسعود وآخرون ضد بعض الرواسب والمخلفات- دعايات ومحاولات يقوم بها بعض الأحزاب السياسية لكسب ود شريحة الحراطين والحصول على أصواتها في الانتخابات، ويستغلها بعض الشباب الطامحين إلى الهجرة إلى الغرب أوالطامعين في التعيين في المناصب الحكومية، أو التمويل من طرف المنظمات "الحقوقية" المشبوهة ذات العلاقة الاستعمارية الصهيونية؛ إذ لم تعد توجد عبودية في موريتانيا إطلاقا. بل يوجد تهميش ضد فصيلة الحراطين له أسبابه، وله طرق علاجه التي بدأت تأخذ طريقها إلى أصحابها: مثل إعمار قراهم وتوفير أسباب الحياة الكريمة فيها وانتهاج سياسة تمييز إيجابي اتجاههم. وقد بينت ذلك ووضحته في كتابَيّ "أزمة الحكم..." و"إلى أحرار موريتانيا" الأمر الذي وضع النقاط على الحروف، ولكنه جلب لي عداء المتاجرين بمآسي الآخرين والمتسلقين على أكتاف المحرومين.
س -  من بين إصداراتك كتاب بعنوان "أزمة الحكم في موريتانيا".. ما هي أزمة الحكم الحقيقية في موريتانيا حاليا؟ وما رأيك بالحوار بين المعارضة والسلطة؟

- أزمة الحكم في موريتانيا أزمة عميقة. وهي قائمة منذ 10 يوليو 1978 وهو اليوم الذي انقلب فيه الجيش على النظام المدني الرشيد على علاته، بقيادة مؤسس وباني موريتانيا الرئيس المختار ولد داداه. لقد أرسى المختار ولد داداه أسس الدولة الحديثة على أنقاض الخيمة والكوخ والقبيلة والجهة. وفصل فصلا تاما بين السلطة والمال. بينما عمل الذين انقلبوا عليه على نقض غزله وتقويض ما بناه والنكوص من الدولة إلى الخيمة والكوخ والقبيلة والجهة و"الجمع بين الأختين" السلطة والمال. وقد استمرؤوا ذلك النهج واستباحوا كل شيء في سبيله، فنشروا الفساد، وضيعوا العباد والبلاد، واختطفوا الجيش وسخروه للدفاع عنهم. واليوم وقد "انقلب" الموريتانيون ضد نهج الفساد وشقوا طريقهم إلى الحرية والتقدم، وأنجزوا الكثير، وبقي الكثير والكثير، فإن القوى المستفيدة من نظام الفساد ترص صفوفها وتسعى إلى العودة عن طريق تخريب المسار الوطني، وتستخدم كل الوسائل والطرق المؤدية إلى ذلك، وتعمل في جميع المواقع التي تحتلها داخل أجهزة الدولة، وفي صفوف الموالاة والمعارضة معا، وعن طريق الصحافة والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. إن أزمة الحكم تكمن في استمرار نشاط بؤر الفساد، وفي عدم الفصل النهائي بين السلطة والمال الذي لا يبدو أنه قريب التحقيق.هذا عن أزمة الحكم. أما فيما يتعلق برأيي في الحوار، فقد سبق لي أن كتبت عنه، وقلت إنه "أسلوب حضاري راق يلجأ إليه في الأزمات والصراعات الكبرى والصغرى معا". وإني لأؤيد طبعا إجراء حوار بين المعارضة والسلطة. وقد أوضحت وبرهنت بالأدلة القاطعة على "أن الأحداث الكبرى والمنعطفات الحاسمة التي عاشتها بلادنا كانت ثمرة حوارات وطنية جادة تمت بين الفاعلين السياسيين في كل منعطف، وأدت إلى حلول إيجابية ومرضية حققت الاستقلال والتنمية، وصانت الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي". ولكن الحوار - هو الآخر- له قواعده؛ فمتى يكون؟ ومع من؟

ومن أجل ماذا؟ ولكي لا أسهب في هذا الموضوع أرى أنه، وبرغم عدم وجود أزمة حادة في البلاد يتطلب الخروج منها توحيد جهود كافة القوى الوطنية؛ فإن توطيد وتوسيع المكاسب والمنجزات الوطنية، وخلق شروط ملائمة تسمح بقيام دولة القانون والمؤسسات البعيدة كليا عن سيطرة الفرد أو المال والقائمة على فصل حقيقي للسلطات، وإشراك كافة القوى الحية في الرأي والتسيير والتوجيه، كلها أهداف تبرر الدعوة إلى حوار بين السلطة والمعارضة والمشاركة في ذلك الحوار. هذا مع التنبيه إلى إحدى خصوصيات الواقع الموريتاني؛ وهي أن معارضة اليوم تختلف عن معارضة الأمس. فبينما كانت معارضة الأمس تتكون أساسا من أحزاب وقوى وشخصيات وطنية وتقدمية تجمعها مبادئ الحرية والديمقراطية، وتكافح آفات القمع والهدر والتهميش وكبت الحريات العامة والنهب الاقتصادي والفساد والهيمنة الأمريكية والصهيونية التي يجسدها نظام ما قبل 3 أغسطس 2005، أصبحت معارضة اليوم تتألف أساسا من فلول ذلك النظام ?

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122